الحياة في الأطراف

آراء 2024/07/24
...

سوسن الجزراوي

يتسابق الجميع على إيجاد بقعة للسكن في العاصمة، حتى وإن كانت مساحتها اشبه بـ(( گُن الدجاج )) ! ولا يهمهم إن وجدوا فسحة لإيقاف سياراتهم، أو نجحوا في اختراق طبقات الجو العليا للحصول على ((شمة هوى))، هذا اذا ما استطاعوا أصلا النوم براحة، في تلك الجحور الضيقة التي يوفرها ذلك السكن ( غير اللائق ) الذي يفتقر لكل الوظائف المطلوب توفرها في أي بيت صحي.
ولنفترض جدلاً أن المكان أصبح متاحاً ومضموناً! فكيف سيكون شكل الحركة؟ وكيف ستتم حلحلة الاختناقات المرورية وإتاحة الفرصة لعداد السرعة للوصول إلى قراءاته المتقدمة، وسط ذلك الكم المرعب للمركبات في تلك المناطق المكتظة بالسكان؟
وفي الحقيقة، لا أعلم ما الذي يستهوي سكان (الأرض) في التمركز (في) قلب العاصمة، بخاصة أولئك الذين لم يولدوا فيها، والذين لديهم بدائل سكنية في محافظاتهم وأقضيتهم ونواحيهم! كما أتساءل: لماذا لا يركز الاتجاه بصره على ماهو أبعد من المركز؟.
دعونا الآن نتوقف إلى الحاجة الماسة لإيجاد منافذ جديدة، الغاية منها، تقليل الزخم المهول الحاصل في العاصمة وبعض المحافظات الحيوية الأخرى، وقد تكون هذه البدائل، هي الأطراف، وأقصد أطراف المدينة، سواء ما تم توفيره فيها من شوارع ومنازل وبنى تحتية، تجعل قاطني هذه الأماكن، مكتفين ذاتياً من المتاح (جغرافياً) بمعنى المساحة المخصصة للإقامة، أو باقي الخدمات التي هي أحد محاور النقاش.
وتعد التجربة المصرية واحدة من أهم التجارب التي شهدتها العواصم العربية، فقد نجحت منذ عقود بعيدة، في تحويل الصحراء إلى مناطق سكنية، مستفيدة من وجود المياه الجوفية من ناحية، ووفرة الأيادي العاملة التي حفرت وعمّرت وبنت من ناحية أخرى، إضافة إلى تقبل المجتمع هناك لفكرة التخلص من هيمنة المدينة وما فيها من إغراءات، اذ تشير بعض التواريخ إلى أن البدايات الفعلية لتحويل تلك الأراضي البور إلى مناطق صالحة للعيش، ترجع إلى العام 2011 وربما قبل ذلك، اذ تكاتفت السواعد السمراء في حوارية جميلة مع ذرات تلك الرمال لإقناعها بان تكون مناطق سكنية نقية تحيطها فضاءات واسعة يسكنها أناس همهم خلق عالم جديد اكثر اتساعاً وأقل صخباً.
في المقابل من هذا نعود إلى بغداد وما حدث فيها من اغتيال قاس للطبيعة ومساحات التهوية والبنى التحتية، لا بل حتى لإسفلت الشوارع، التي باتت تئن من الأحمال الكبيرة المتنقلة ليلاً نهاراً، فمع النهضة العمرانية الكبيرة، وما قد يتولد عنها من انفجارات سكانية واقتصادية وصحية، صار من المهم جدًا وجدًا وجدا، أن تتحرك بوصلة هذا الإعمار، خارج هذه الحدود الضيقة لتصل إلى اطراف المدينة، بل حتى لتعبرها اذا كان بالإمكان، لا سيما أن أرض العراق أرضاً جميلة حتى برمالها وصخورها، فالاهتمام بإنشاء طرق حولية واسعة، هي أكثر نفعا من هذه المجسرات، وإن كانت مفيدة إلى حد معقول لا يمكن التقليل من شأنه إطلاقاً.
ومع وجود هذه الشوارع المرصوفة الواسعة، يصبح التنقل سهلاً متحرراً من الاختناقات، ولنا في (حوليات) أربيل كما يقال: قدوة حسنة، إذ بدأت من شارع 60/100/120/150 وهكذا.
وهكذا، تكون المدينة قد تحررت من قيود الأبنية، التي أصبحت أشبه بالألغام المزروعة القادرة على خلق الصراعات والخلافات، على كل شيء يمت للحياة بصلة، وذات الحال مع الطرق والجسور المكتظة حد التخمة، فالحل بصريح العبارة يكمن بمغازلة الحدود والأطراف و(النزوح) بعيدا عن المدينة وضجيجها، دون الاستغناء عن سهولة العودة إليها، عبر الاعتماد على الطرق الحولية القادرة على اختزال الزمن من ساعات إلى دقائق، إذ لا ننسى أن الكثير من الأشخاص يحتاجون المدينة لوجود مقرات عملهم والمشافي والجامعات والدوائر الرسمية المهمة، وباقي التزاماتهم التي لا يمكن الاستغناء عنها بين عشية وضحاها.