السلحفاة التي تسببت بثورة عالميَّة
كارلا روش
ترجمة: مي اسماعيل
هل تذكرون فيلم فيديو حول عملية إخراج قصبة بلاستيكية انغرست في فتحة أنف سلحفاة بحرية، لكم أن تتخيلوا كيف إن العالم بأجمعه تفاعل مع معاناة تلك السلحفاة، وأدى ذلك التفاعل لإشعال حركة ساهمت في القضاء على استخدام القصب البلاستيكي مع علب المشروبات. خلال العام 2015 كانت طالبة الدكتوراه “كريستين فيجنر” على متن قارب صيد صغير قرب سواحل كوستاريكا على المحيط الهادئ، وكانت تتفحص سلحفاة من فصيلة “ريدلي الزيتونية” حينما لاحظت جسما غريبا منغرسا في إحدى فتحتي أنفها.
ولشعورها بالفضول بدأت بتصوير الحادثة بينما قام أحد زملائها بفحص ذلك الجسم.. وثق فيلم الفيديو ذاك لنحو ثماني دقائق العملية غير المريحة لإخراج القصبة البلاستيكية من أنف السلحفاة، بينما كان الدم يقطر من فتحة منخرها.
بصفتها عالمة بايولوجيا بحرية؛ كان اهتمام فيجنر منصبا على السلاحف وليس على البلاستيك. لكن هذا الاخير كان دائما موضوعا صادفته موقعيا؛ إذ شهدت سلاحف وحيوانات بحرية اخرى عالقة داخل اطارات سيارات وشباك صيد وأكياس بلاستيكية. تقول فيجنر: “لستُ ناشطة لأدعم قضية ما؛ لكن لا يمكننا نحن العلماء البقاء في برجنا العاجي.. نحن نرى ونُوّثق أشياء ينبغي نشرها بشكل أوسع. ولا يتعلق الأمر بمجرد الفهم؛ بل بجعل الناس يهتمون، وبتفسير ما نقوم به فعليا.
إن مجرد النظر الى أطنان البلاستيك العائمة في المحيط قد تكون مفهوما مجرّدا نوعا ما؛ لكن الشعور بآلام مخلوق آخر أمر مختلف.. إذ حمل رسالة إلى غير العلماء؛ موضّحا ما تعنيه الإحصائيات حول وجود البلاستك كمُلوّث في الواقع”. استقطبت الحملة المُناهضة لاستخدام القصب البلاستيكي انتباه العالم بعدما نشرت فيجنر الفيديو على الانترنت.. وكان السؤال هو: ما مدى ضرر قصبات الاستخدام الواحد البلاستيكية على البيئة؟
مُخلفات مؤذية
قبل سنوات من نشر الفيديو؛ كانت “جاكي نونيز” تجمع القصبات البلاستيكية المشابهة لتلك المستخرجة من أنف السلحفاة. وقد تطوعت مرارا في حملات تنظيف الشواطئ بمنطقة سانتا كروز ضمن سواحل كاليفورنيا؛ وهذا فتح عينيها على حجم التلوث البلاستيكي في المحيط. وعلى مقربة من المنطقة تتمتع محمية خليج مونتيري البحرية الوطنية؛ وهي منطقة محمية فيدراليا؛ بسلسلة من اللوائح لحماية بيئتها وتنوعها البيولوجي الغني. ومن الفعاليات المحظورة في تلك المنطقة.. “إصابة أو إزعاج الثدييات والطيور والسلاحف البحرية”.
ورغم أن تلك اللوائح معروضة بوضوح؛ لكن ادارة المحمية لا يسعها السيطرة على حقيقة ان مخلفات البلاستك ينتهي بها المطاف في المحيط؛ لتُشكّل تهديدا جسيما على الانظمة البيئية. يُعرف عن البلاستك أنه يؤذي الحياة البرية بطرق متعددة؛ منها التشابك مع الكائنات البحرية أو التسبب بابتلاعه؛ حيث تخلط العديد من الحيوانات بين قطع البلاستيك وبين الغذاء. ووجدت دراسات جديدة مئات القطع البلاستيكية داخل أحشاء سلاحف بحرية نافقة في البحر المتوسط. كما ظهر أن نحو اربعين بالمئة من السلاحف التي جرت دراستها كانت قد ابتلعت قطع لدائن كبيرة “ماكروبلاستيك- macroplastics” التي يزيد طولها عن خمسة ملم؛ ومنها- اللُعَب وأغطية القناني. ووفقاً لبيانات الصندوق العالمي للحياة البرية؛ فإن واحدة من كل سلحفاتين بحريتين تناولت قطعا من البلاستيك، وتضورت الكثيرات منها جوعا حتى الموت بينما تمتلئ معداتها بالبلاستيك. ونشر برنامج الأمم المتحدة للبيئة أن أكثر من 7874 طنا من المواد البلاستيكية تدخل الى المحيطات سنويا.
مشكلة مُحيّرة
تقول نونيز: “وصل الأمر الى درجة أصابتني بالحيرة تجاه المشكلة”.. لقد كانت القصبات البلاستيكية من بين أكثر القطع تكرارا مما جمع المتطوعون أثناء عمليات تنظيف الشاطئ؛ وهي الاكثر إشكالية؛ فهي من مواد بلاستيك الاستخدام الواحد، التي لا يمكن إعادة تدويرها بسهولة بسبب حجمها وشكلها ومادتها. ثم أدركت نونيز أن احدى الطرق الفعالة لمساعدة تلك المخلوقات كانت بتقليل حجم استهلاك البلاستيك؛ فقامت بإنشاء موقع على الانترنت للتوضيح وعملت مع المدارس لرفع وعي الطلبة، وطلبت من المطاعم المحلية التوقف عن تقديم القصب البلاستك بصورة اعتيادية، وإنما اعطاءها للزبائن حسب الطلب فقط. وخلال العام 2011، أطلقت جاكي نونيز حملة “القصبة البلاستيكية الأخيرة”، وعنها تقول: “نحقق تقدما بطيئا؛ إذ لم يكن هناك كثير ممن يتحدثون عن القصب البلاستيكي حينها”. وفجأة ظهر فيديو فيجنر حول السلحفاة المصابة عام 2015 في بريد نونيز؛ وقد جرى تداوله على نطاق واسع عبر وسائل التواصل الاجتماعي. وفورا تقدمت نونيز بطلب لاستخدام الفيديو ضمن حملتها. وقد نال الفيديو مشاهداتٍ مليونية، وأجرت فيجنر مقابلات مع وسائل اعلام كثيرة حول العالم وظهرت عبر فيلم وثائقي بعنوان “القصبات” في العام 2018. وبسببه توقفت العديد من الجامعات عن استخدام قصبات البلاستيك ذات الاستعمال الواحد؛ مما قلل عدد القصبات التي تنتهي إلى الطمر الصحي بنحو 444 ألف قصبة بلاستيك.
أصبحت تلك السلحفاة رمزا لأزمة تلوث البلاستك، ما أعطى لحملة مكافحته وجها يحمل معاناةٍ لا تُنسى. تنسب نونيز، التي تعمل اليوم مديرة برنامج ضمن “تحالف التلوث البلاستيكي”؛ الى ذلك الفيديو الفضل في إطلاق الحركة العالمية وزيادة الوعي حول التأثير الذي يمكن أن تحدثه قصبة بلاستك واحدة فقط؛ قائلة: “بمجرد أن تراه لا يمكنك تجاهله.. انه ذو تأثير قوي جدا..”. ورغم انه لا يمكن أن يتم التحول عن منتجات بلاستيك الاستخدام الوحيد بعد نشر فيلم فيديو واحد؛ فإن نونيز تعتقد أن فيديو فيجنر أسهم فعليا بإحداث تحول هائل لتغيير السلوك؛ بما في ذلك نحو تنفيذ سياسات للقضاء على بلاستيك الاستخدام الواحد على مستوى العالم. وفرضت نحو ثلاثين دولة من مختلف العالم، حظرا على تلك المنتجات، بعد العام 2015.
“الشرير المنبوذ”
جاء في تقرير صدر عام 2023 عن مؤسسة “الحفاظ على المحيطات-Ocean Conservancy” غير الربحية أن قصبة البلاستيك تتصدر خلال السنوات السابقة وباستمرار قائمة العناصر التي يتم جمعها خلال عمليات التنظيف الساحلية الدولية السنوية. لكن بياناتهم أظهرت أن أعداد تلك القصبات بات في تناقص على الشواطئ. احتل القصب البلاستيكي خلال العام 2019 المرتبة الثالثة ضمن مخلفات الشواطئ؛ لكنه تراجع الى المرتبة العاشرة بحلول العام 2023. ويؤكد تقرير المؤسسة أن القصب أصبح بمثابة.. “الشرير البيئي المنبوذ” منذ انتشار فيديو معالجة السلحفاة. تُضيف نونيز: “بدأ الأمر بالقصب البلاستيكي؛ لكنها كانت مجرد بداية.. وصار الناس يتساءلون عما يمكنهم فعله، وتصدّر فيديو السلحفاة المحادثة بأكملها؛ وكانت هي المفتاح الى الحلول”.. وفجأة؛ كما تقول؛ كانت هناك مئات الحملات ضد البلاستيك.
شاهدت “ستيفاني موتيللو” (التي كانت تعمل في احدى سلاسل المقاهي الشهيرة) فيديو السلحفاة في العام 2018؛ وحينها أطلقت التماسا على الانترنت يحمل صورة السلحفاة، وطالبت الشركة بإيقاف استخدام القصب البلاستيكي. جمع الالتماس نحو 147 ألف توقيع خلال بضعة أشهر؛ وعنه تقول: “أثّر بي ذلك الفيديو كثيرا، حينها أطلقتُ الالتماس؛ وقد علمتُ أنه يتوجب عليَّ الحديث عنه..”. بعد قليل دعمت الشركة المالكة لسلسلة المقاهي التماس موتيللو، وتعهدت في العام 2018 بإيقاف تقديم القصب البلاستيكي ذي الاستخدام الواحد، والاستعاضة عنه ببدائل قابلة لإعادة التدوير عبر فروعها حول العالم. وحذت شركات ومؤسسات أخرى حذوها خلال السنة نفسها؛ وعرضوا خططا مرحلية لإيقاف استخدام القصب البلاستيكي. لكن القصب ليس الا نموذجا واحدا للكثير من منتجات البلاستيك ذات الاستخدام الواحد، وتكشف الأدلّة أن أزمة التلوث العالمي بالبلاستيك تنحو الى الأسوأ. فقد تضاعف استهلاك البلاستيك أربع مرات خلال السنوات الثلاثين الأخيرة، ولم يقتصر الأمر على زيادة كم المنتجات، بل أن أغلبها لا يجري إعادة تدويره. وجدت “منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية- OECD” في العام 2019 أن نحو تسعة بالمئة فقط من مخلفات البلاستيك يجري تدويرها عالميا؛ وينخفض المعدل الى أربعة بالمئة فقط في الولايات المتحدة.
طريقٌ طويلٌ للنجاح
تعترف فيجنر أن هناك طريقا طويلا أمام القضية، قائلة: “علينا المضي بتحركاتٍ فعلية؛ بدلا من التحرك عبر طرق جانبية واطلاق الشعارات الجوفاء أو الحلول السريعة التي لا تعمل. أعتقدُ أن التشريعات ومعاهدات وسياسات الامم المتحدة هي التي ستقود الى تغيير حقيقي”.
هناك بعض التحركات بهذا الاتجاه؛ فخلال العام 2022، أيدت الدول الأعضاء ضمن جمعية الأمم المتحدة قرارا تاريخيا للبيئة برقم “UNEA- 5” لإنهاء التلوث البلاستيكي، يطمح لاستكمال مسودة اتفاقية مُلزِمة قانونيا بحلول نهاية العام
الحالي. وتمضي فيجنر قائلة: “لن نُصلِحَ العالم عن طريق التخلص التدريجي من القصبات البلاستيكية.. لم تكن هذه نيتنا أبدا، ولم يكن هدفنا صغيرا إلى هذا الحد.. لقد كان مثل حجر سقط في الماء، وأحدث تموجات صغيرة تحولت إلى أمواج.. لقد ألهم هذا الشيء الفظيع معاناة السلحفاة حقا الكثير من الناس، وحفّزَ لأمر جيد..”
موقع بي بي سي البريطاني