المقاتل الذي ذهب لتحرير الموصل مع اخوته ان كانوا من الجنوب او الشمال او الوسط، هم ابناء العراق اولا واخيرا وما دفعه للاستبسال والشهامة والتميز والشجاعة، هي الروح التي يحملها والسريرة النقية التي جُبل
عليها.
وهذا كاف لأثبات ان العراق بمختلف تنوعه الجغرافي والديني والمذهبي، هو بلد مكتمل بنسيج مخملي متحد محاك بخيوط متينة من قواسم مشتركة وارث وحب وعاطفة فيّاضة. روى احد الجنود المقاتلين من اهالي الجنوب العراقي العزيز لأحدى الصحف المحلية، كيف قاتل مع قوة من زملائه الاشداء لتحرير حي وادي حجر في الجانب الايمن من مدينة الموصل. كان الجندي ينحدر من احدى قرى جنوب القلب العراقي المترع بالكرم والنُبل كما اهلنا في كل
البلاد.وفي اثناء التقدم الصعب للقوة الامنية التي ينتمي اليها والذي كان حذرا لوجود عثرات مفخخة ومتاريس وحواجز خرسانية، وبعد مضي وقت في ازالة العبوات من الشوارع وطرد مفارز تعويق الارهابيين.
عثر هو وزميله على عائلة من سكنة حي وادي حجر تروم الخروج الى ملاذ امن ومغادرة الحي او الشارع الذي يسكنونه وقد تعرض لقصف شديد من الارهابيين بالصواريخ والقذائف والطائرات المسيرة التي تقصف المدنيين الخارجين من البيوت لإجبارهم على البقاء والقتل في بيوتهم وهو ما يريدونه كي يجعلوا منهم دروعا بشرية تعيق تقدم القوات الامنية المحررة. يقول المقاتل بانه رأى العائلة المتكونة من الاب الستيني وبناته الاربع وزوجته يلوذون بحائط من بيت متهدم بعد شعورهم بأن سقوط بيتهم على رؤوسهم بات وشيكا.
يقترب منهم مع زميله رغم شدة المعركة والقصف المكثف وتوالي رشقات قناصة العدو فيحاول طمأنتهم بالكلام والتودد والترحيب ويسقيهم ماء مما يحمله قائلا لهم بانهم في امان ما دمنا معكم.
يحاول انقاذهم واخراجهم من لهيب النار المحرقة فيترك زميله خلفه لحمايتهم وهو يسيرامامهم باحثا عن مأوى مؤمن من سعير الموت. يترك المقاتل القوة القتالية بعد ايصال رسالة الى مسؤوله المباشر الذي سمح له.
وبعد ثلاث ساعات من التنقل الماراثوني بين البيوت والانقاض والشوارع والمدارس التي تتعرض جميعها لضرب الارهابيين المقصود، ينجح في ايصالهم الى خارج الحي وتسليمهم الى القوات الامنية المرابطة هناك.
يقول الجندي، في اثناء المسير اخذ الرجل اسمي وعنواني ورقم هاتفي على سبيل الحديث وقضاء الوقت الصعب الذي كنا نمر به والعشرة الطيبة والزاد الذي تناولانه معا. وبعد التحرير الكامل واستتباب الامن في المحافظة وعودة الناس الى بيوتهم وازدهار الحياة ثانية، يُفاجأ بان يأتيه اتصالا من العائلة الموصلية ويخبرونه بانهم سيأتون لزيارته شاكرين مع انه رد عليهم بان ما قام به هو واجبي اولا وبانكم مثل اهلي
ثانيا.
تظهر هذه الحالة بان على الصعيد الاجتماعي لا يوجد ما يعكر صفو الاخوة والتسامح وليس ما يوجد فرق بين هذا المواطن الذي يعيش في الموصل او ذاك المواطن الذي يعيش في مدن الجنوب فكلاهما ينتميان الى البلاد الكبيرة التي اسمها العراق.
وهذا ما يدعو الى الوقوف باحترام امام ما فعله هذا الجندي الذي لم يخش نيران القنص والقصف والسعير الذي يحوم فوق راسه وراح يؤمن للعائلة ماوي لهم. وبالقول بان المواطن العراقي هو واحد في جميع الامكنة على طول مساحة الحب والامل، نقول بان هذا يتضح جليا في الغربة خارج الوطن. فكل العراقيين هناك كأنهم من عشيرة واحدة ومن مدينة واحدة ولا فرق بين واحد
واخر. وبالعودة لذاك الجندي الشهم الغيور، نقول كم من تلك الحالات شهدتها مناطق القتال مع الارهاب وكم من تلك المواقف تجلت بصورتها النقية الخالية من الشوائب والرتوش، فلا سوى الحقيقة في لحظات الموت والحرب
والتضحية. وما اسعدنا في قصة الجندي انه انتفض لعائلة حسبها عائلته واراد ان يوصلهم الى بر الامان بأية تضحية كانت ولو كان بمقدوره اخراج العوائل من الذين لم يستطيعوا الخروج وقتها لفعل بالتأكيد، لان من ينقذ عائلة واحدة قادر على انقاذ الجميع وبنفس الهمة
والشهامة.
ان العراق ارضا وشعبا، هو بلد النسيج المتين المترابط الغيور على بعضه البعض رغم محاولات بث السموم والعثرات في طريق الناس الانقياء، لكن الموقف واحد وبالتالي المصير واحد.
تحية للجندي الباسل الذي انقذ العائلة الموصلية التي قال عنها انها مثل عائلته. وتحية للعائلة التي ردت الشهامة بموقف نبيل وجميل وكريم، حين تواصلوا مع الشاب الجنوبي وتبادلوا معه الزيارات العائلية التي لا كلمات توصفها ولا مشاعر تحتويها لأنها فيض عراقي من نبع صاف مدرار ونقي، فالمصالحة المجتمعية قد بدأت من هناك حقا.