أسعار النفط بين قوانين السوق والتدخلات السياسيّة المفتعلة
الثانية والثالثة
2019/06/27
+A
-A
د. محمد رياض حمزة
من مسلمات علم الاقتصاد ان النفط الخام سلعة ذات طلب فعّال في اسواق العالم كافة. فالصناعات جميعها والكهرباء والتكنولوجيا الإلكترونية المتقدمة ووسائط النقل برا وبحرا وجوا... وعشرات من الانشطة الاقتصادية غيرها تعتمد على المشتقات من الطاقة الاحفورية ( النفط الخام).
فلو أن التوترات التي اوجدتها التناقضات السياسية التي تشهدها المنطقة العربية والشرق الاوسط عموما قد حدثت في العقد الماضي لتقافزت اسعار النفط متجاوزة الرقم القياسي المسجل لسعر البرميل من قبل ( 145.93 دولار للبرميل في حزيران 2008) . وفي ضوء استهلاك العالم المتزايد من النفط ومشتقاته االذي يتجاوز اليوم 93 مليون برميل. علما بأن استهلاك الولايات المتحدة الامريكية وحدها 20.5 مليون برميل يوميا، بينما تنتج كمعدل يومي 7.5 ــ 8.5 براميل كما تقول إدارة الطاقة الامريكية، لذا فإن إي خلل في الاستثمار أو الإنتاج أو التسويق في صناعة النفط سيربك الاقتصاد العالمي ويعرقل نموه، فالطلب على النفط الخام فعّال ويكذّب التسييس المغرض لأسواق النفط أيا كان مصدره.
ووفق نظرية أن العامل السياسي سبب في تذبذب الأسعار فإن أسواق النفط لن تتوازن ويتحقق السعر الذي يرضي المنتجين والمستهلكين، فالتدخل السياسي في اسواق النفط يلقي قوانين السوق في العرض والطلب، ويتسبب بالتذبذب بالذي تشهده الاسواق من حين لآخر.
إن الهدف منه خفض أسعار الطاقة على مستوردي النفط، الولايات المتحدة الأمريكية والدول الاوروبية والاسيوية، ويتجلى حرف قوانين السوق بتسييس تجارة النفط بممارسة المزيد من الضغوط على روسيا في مجمل موقفها في العالم، وكذلك على إيران لدفعها لمزيد من التنازلات في برنامجها النووي وصناعتها الدفاعية الحربية المتطورة. وذلك جوهر نظرية العامل السياسي في التأثير على اسواق النفط والاسعار وليست قوانين السوق.
لم يتناول الكتاب والمحللون العلاقة بين أسعار النفط المنهارة في ضوء عوامل التدخلات السياسية في تجارة النفط الدولية، فمعظم الكتابات المتخصصة دأبت على ذكر تخمة المعروض من النفط الخام وتصاعد إنتاج الولايات المتحدة من الزيت الصخري وتراجع الطلب بسبب ضعف أداء الاقتصاد الصيني وكمية المخزون الستراتيجي الأمريكي زيادة أو نقصانا أسباب في انهيار أسعار النفط منذ منتصف 2014.
بدأت لعبة خفض أسعار النفط بتكثيف الجهود لزيادة إنتاج النفط الخام الأمريكي من الزيت الصخري. وبالأرقام تكون الولايات المتحدة قد رفعت إنتاجها بنحو 4 ملايين برميل يوميا من النفط العالي الجودة والذي يمتاز بالخفة ومنخفض الكبريت منذ بداية 2014. ثم استكمل مجلسا النواب الشيوخ الأمريكيان بأغلبية ساحقة بإقرار مشروع قانون للإنفاق على إنتاج الزيت الصخري ورفع الحظر المفروض منذ 40 عاما على صادرات النفط الخام 18 كانون الاول 2015، وتضمن القانون بناء على رغبة الديمقراطيين (إدارة أوباما)، إجراءات للطاقات المتجددة، فيما نجح الجمهوريون في نهاية المطاف في إلغاء الحظر على تصدير النفط الأمريكي المعمول به منذ العام 1975.
في 13 من أيلول 2018 قالت (وكالة الطاقة الدولية) التي تتخذ من باريس مقرا لها عن الاستهلاك العالمي للمنتوجات النفطية، متوقعة تزايد الطلب على النفط في العام 2019.
وقالت الوكالة في تقريرها، إن استهلاك النفط العالمي سيتجاوز 100 مليون برميل يوميا حتى نهاية 2018، ما يسهم في امتصاص فائض المعروض بالسوق ويفرض ضغوطا على الأسعار، لكن أزمات الأسواق الناشئة والنزاعات التجارية قد تؤثر سلبا في الطلب.
وأشار التقرير إلى أن “النطاق السعري 70-80 دولارا للبرميل وأن “فرض العقوبات الأمريكية على قطاع الطاقة الإيراني أدى إلى خفض المعروض لأدنى مستوى خلال عامين، لكن تراجع الإنتاج في فنزويلا بسبب أزمة اقتصادية ممتدة إلى جانب انقطاعات مفاجئة في مناطق أخرى سيبقي على التوازن بين العرض والطلب.
وبين منتصف شهر أيار 2019 ومنتصف حزيران 2019 خسر برميل نفط منظمة الدول المصدرة للنفط (أوبك) 16 % قبل ان يبدا بالتصاعد بتصاعد الاستهداف الامريكي لإيران.
ويتكرر تذبذب اسعار النفط في السوق العالمية فتتعرض الموارد المالية للدول المصدرة للنفط للخسائر. ولعل انهيار سعر النفط منذ 2014 والسنوات التالية وتدنيه إلى ما دون 30 دولارا للبرميل تسبب بخسائر تلك الدول تجاوزت التريليون دولار خلال خمس سنوات (التريليون ألف مليار). ومن خلال تذبذب الاسعار الذي صار ملازما لاسواق النفط ، يمكن الاستنتاج ان الدول الكبرى المستوردة للنفط مع وكالة الطاقة الدولية التي تأسست عام 1974 لمساعدة البلدان الغربية على الحصول على سعر “ معقول” للنفط الخام. وفعلا كانت هذه الوكالة نشطة ومؤثرة في الاسعار بما تعلنه من تحليلات وتنبؤات في اسواق النفط، ومعنى سعر النفط المعقول يعني خفضه ما امكن.
وبالمقابل فإن منظمة الدول المصدرة للنفط ( أوبك ) وهي منظمة حكومية دولية، تأسست عام 1960 في بغداد، وتستأثر الدول الأعضاء البالغ عددها 14 دولة بنحو 44 بالمئة من إنتاج النفط العالمي و81.5 بالمئة من احتياطيات النفط “المثبتة” في العالم .
والشائع ان أوبك ذات تاثير كبير في توجهات اسعار النفط في الاسواق العالمية، نعم ولكن ليس بالضرورة أن المنظمة كانت دائما تعمل لصالح دول المنظمة، فالتناقضات السياسية بين دول أوبك طالما أضرت بمصالح معظم أعضاء المنظمة، فنظام الحصص الذي من المفترض أن تلتزم به اثنتا عشرة دولة في ( أوبك) لم يكن متحققا فعلا.
فطالما تجاوزت الدول الاعضاء الحصص المقررة لها والحجة مصالحها الوطنية، ذلك فضلا عن وجود أكثر من 50 دولة تصدر النفط الخام من مليون برميل يوميا، أقل أو أكثر، إلى 10 ملايين برميل يوميا أقل أو أكثر، فدول العالم المستوردة للنفط الخام أدركت اللعبة وصارت تشتري النفط بالسعر الأقل من أي مصدر وبأقل التكاليف الإضافية، وكانت مصادر إعلام النفط العالمية تقول أن تخمة المعروض من النفط الخام في أسواق العالم السبب المباشر في تراجع الاسعار، وذلك يبرهن “ أكذوبة “ نظام الحصص في المنظمة .
أما المسببات التي كان يتكرر ذكرها وتؤثر في ارتفاع أو هبوط أسعار النفط، لتؤكد أن انهيار الأسعار التي تجاوزت نسبة 60 بالمئة عما كانت عليه قبل منتصف 2014 فإن معظمها كان غير حقيقي:
ـــــ فتخمة المعروض: كانت موجودة في اسواق النفط، منذ عام 2005 . وكانت الاسواق تتسلم شحنات من النفط تفوق الطلب وكان تأثيرها ضئيلاً في الأسعار التي بقيت فوق 100 دولار للبرميل قبل 2014.
ـــــ الطلب: كان ولا يزال وسيبقى النفط السلعة الحيوية للأنشطة الاقتصادية والحياتية والتقنية في العالم. إذ يستهلك العالم ما يتجاوز 93 مليون برميل يوميا، فالطلب على النفط يتنامى ولم يتوقف. وخلال السنوات الخمس (2014 – 2019) تعافى الاقتصاد العالمي، وكان الطلب الآسيوي المتصاعد على الطاقة السبب المباشر في تجاوز الأسعار 145 دولارا للبرميل عام
2008 .
ــ الخزين الستراتيجي الأمريكي من النفط ومشتقاته: يصدر “معهد البترول الأمريكي (American Petroleum Institute ) بيانا يوم الأربعاء من كل أسبوع عن مستوى الحزين الستراتيجي من النفط، فكلما تحدث المعهد عن ارتفاع الخزين انخفضت أسعار النفط وكلما انخفض الخزين ارتفعت أسعارالنفط. ولا يمكن التحقق من دقة وصدق تلك البيانات. وقد يمكن أن تستخدم هذه البيانات للتأثير على مستوى الأسعار أسبوعيا إذ تتناسب كمية الخزين الامريكي مع الأسعار عكسيا، وبزيادتها تنخفض الأسعار وبانخفاضها ترتفع الأسعار.
وفي ضوء أبرز التوقعات المتحفظة في اسواق النفط يتعين على العراق ان يعمل على تعزيز مصالحه أولا، فموازنة 2019 سجلت عجزا تجاوز 23 مليار دولار، فقد خفضت أوبك توقعها لنمو الطلب العالمي على النفط بفعل تصاعد النزاعات التجارية، وسط مزيد من المخاطر وأشارت أوبك إلى احتمال حدوث مزيد من التخفيض، مما قد يبرر تمديد القيود المفروضة على الإمدادات لنهاية 2019.
وقالت المنظمة في تقريرها لشهر حزيران 2019 إن الطلب العالمي على النفط سيزيد 1.14 مليون برميل يوميا في العام الحالي، بما يقل 70 ألف برميل يوميا عن التوقع السابق. وقالت أوبك في التقرير “على مدى النصف الأول من العام الحالي، تصاعدت التوترات التجارية.. ما زالت هناك مخاطر تراجع واضحة من انعكاسات النزاعات التجارية المتصاعدة إلى نمو الطلب العالمي.
كما خفضت وكالة الطاقة الدولية توقعاتها لنمو الطلب العالمي على النفط في العام الحالي للشهر الثاني على التوالي. وقالت الوكالة في تقريرها لشهر حزيران 2019 إن تقديرات نمو الطلب العالمي على النفط للعام الحالي تم خفضها بمقدار 100 ألف برميل يومياً لتصل إلى 1.2 مليون برميل يومياً.وأكد التقرير أنه في الفترة التي تنمو التجارة العالمية بأبطأ وتيرة منذ الأزمة المالية قبل عشر سنوات فإن عواقب الطلب على النفط أصبحت جلية.وأشار تقرير الوكالة إلى أن الطلب على النفط سجل ارتفاعاً بمقدار 250 ألف برميل يومياً في الاشهر الثلاثة الأولى من 2019، وهي أقل زيادة سنوية منذ الربع الرابع لعام 2011.وأرجعت الوكالة السبب الرئيس لتباطؤ نمو الطلب على النفط في الربع الأول من العام إلى دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية حيث هبط الطلب هناك بمقدار 0.6 مليون برميل
يومياً.
وعلى الجانب الآخر، فإن مستويات الطلب على النفط داخل الدول غير الأعضاء بالمنظمة قد زاد بمقدار 0.9 مليون برميل يومياً. ولعام 2020 تتوقع الوكالة أن يصل نمو الطلب العالمي على الخام عند مستوى 1.4 مليون برميل يومياً. وأشارت إلى أنه في الوقت الحالي توجد حالة من التفاؤل بشأن أن الجزء المتبقي من العام و2020 سيشهد صورة اقتصادية أفضل. وفي 2020 تتوقع الوكالة أن يرتفع المعروض من خارج أوبك بمقدار 2.3 مليون برميل يومياً. وذكر التقرير أن التوقعات الأولية للوضع في سوق الخام العام المقبل تشير إلى أن وفرة المعروض من جانب الدول خارج أوبك ستكون متاحة لمواجهة أي مستوى من الطلب على افتراض عدم وجود صدمات
جيوسياسية.