بين الأطماع السياسية والأمن الوظيفي - رؤيةٌ قانونيةٌ موضوعيةٌ -

العراق 2019/07/01
...

د.حسن الياسري
 
 
 
لئن كانت الإدارة – الدولة – قد أخطأت في هذا الملف حينما سنّت سُنَّة الإدارة بالوكالة، التي ما كان ينبغي الاستمرار عليها بداعي الضرورة، فإنَّ هذه الضرورة كان يتعين أنْ تقدّر بقدرها وأنْ لا يتوسع فيها ولا يُلجأ إليها إلاّ في الحالات النادرة جداً وبشكلٍ مؤقت، كما أنَّ الإنصاف يقتضي عدم تحميل المسؤولية على المكلفين بالإدارة بالوكالة!! وبناءً على كل ما تقدم ينبغي أنْ يكون معيار التقويم الرئيس هو العمل ذاته وخدمة البلد، بصرف النظر عن كونه أصالةً أو وكالةً.  
 
المسألة الثانية : ما هي الآلية القانونية المثلى لمعالجة ملف الإدارة بالوكالة؟
لا ريب في أنَّ معالجة هذه المشكلة تحتاج إلى آلياتٍ قانونيةٍ سليمةٍ، تتفق مع القانون، وتنسجم مع السياقات الإدارية. بيد أنَّ ما حصل في الأشهر المنصرمة من تداعياتٍ لم تسهم بحلها بشكلٍ قانوني ، فقد تصاعدت الأصوات لحل هذه المشكلة وحسم هذا الملف، وعلى الرغم من إيماننا بصدق نوايا بعض هذه الأصوات ، لكننا نكاد نجزم أنَّ بعضها الآخر ينطلق من منطلقاتٍ سياسيةٍ تمثل أطماعاً لبعض الكتل السياسية في إقصاء بعض العاملين بالوكالة والاستحواذ على مواقعهم. ولربما يكون هذا ما دفع البعض لإقناع البرلمان بوضع المادة (58) في قانون الموازنة العامة، وتحديد الثلاثين من حزيران الجاري موعداً لحسم الملف. وعلى الرغم من الانحراف التشريعي الواضح في هذا النص، فإنَّهم لم يكتفوا بذلك، بل رتبوا أثراً آخر يمثل بدوره خطأً آخر وانحرافاً تشريعياً ثانياً، وهو القول بضرورة كف أيدي العاملين بالوكالة بعد انتهاء الموعد المذكور، وعدم استحقاقهم مستحقاتهم المالية، وما شابه ذلك من آثارٍ خطيرةٍ غير مقبولةٍ من الناحية القانونية وردت في ذيل المادة (58)، التي جاء فيها: (ويُعد أي اجراء بعد هذا التأريخ يقوم به المعين بالوكالة باطلاً ولا يترتب أي أثر قانوني على أن تقوم الدائرة المعنية بإيقاف جميع المخصصات المالية والصلاحيات الادارية في حالة استمرارها بعد التأريخ المذكور أعلاه)!!. ولستُ أدري كيف يمكن لسلطةٍ تشريعيةٍ تلتزم بالدستور والقانون سنَّ مثل هذا النص البعيد عن القانون بُعد الأرض عن السماء ، فضلاً عن مخالفته للعدالة والإنصاف وروح القانون!! فما هو السند القانوني لهذا النص؟ وكيف يتحمل الموظف والمكلف بالإدارة بالوكالة خطأ الإدارة ذاتها ، مع أنَّ الخطأ ليس منه، بل هو خادمٌ للدولة طيلة هذه السنوات؟ ومَنْ ذا الذي أفتى لهم بترتيب هذه الآثار المخالفة للقانون،  والمُعطِّلة لسير المرافق العامة، وكأنَّ النص يخفي وراءه أمراً غير معلن!!
وتأسيساً على ذلك كله أدعو كلاً من الحكومة والسيدات والسادة النواب إلى ضرورة الالتزام بالنهج القانوني السليم في معالجة هذا الملف وحسمه، فلدي الثقة باستعدادهما لذلك. وإسهاماً في معالجة هذه المشكلة معالجةً قانونيةً موضوعيةً ، أقدم لهما مقترحين اثنين:
الأول: وهو الأساس، ويتمثل بقيام البرلمان على وجه السرعة بتعديل نص المادة (58) من قانون الموازنة العامة، وذلك عبر رفع القيد الزمني منها والاقتصار فيها على دعوة الحكومة إلى ضرورة معالجة وحسم هذا الملف بالسرعة الممكنة فقط ، دون تقييدها بأمدٍ زمنيٍ محدودٍ، ودون التطرق للقضايا الأخرى المخالفة المذكورة آنفاً. ويمكن للسيد رئيس مجلس الوزراء طمأنة البرلمان عبر التعهد – شفهياً – بحسم الملف خلال مدةٍ لا تتجاوز نهاية هذا العام مثلاً.
إنَّ هذا المقترح يحقق هدفين: الأول هو حسم هذا الملف بشكلٍ ينسجم مع القانون، والثاني هو انتظام سير المرافق العامة وعدم تعطيلها أو إصابة الدولة بالشلل. أما التغاضي عن المسألة بعد فوات المدة أو إيقاع الدولة في حالة الشلل التام الناجم عن عدم القدرة على استكمال متطلبات هذا الملف فسيفضي إلى الكثير من المشكلات القانونية والإدارية التي لها أولٌ وليس لها آخر. ثم إنَّ هذا المقترح أولى من تمديد المدة لأمدٍ آخر، كأن يكون تسعين يوماً مثلاً، إذْ يبقى الاحتمال قائماً بعدم قدرة الحكومة على الإيفاء بكل متطلبات حسمه خلال المدة الجديدة، فنقع وقتئذٍ فيما وقعنا فيه سابقاً مرةً أخرى؛ لذا يغدو عدم تقييد الحكومة بمدةٍ محددةٍ هو الأوفق والأولى، مع التأكيد على ضرورة حسم الملف بالسرعة الممكنة ؛ فذلك سيمكِّن الحكومة من اختيار الكفاءات الأفضل بسبب فسحة الوقت، بخلاف تقييدها بمدةٍ محددةٍ ، إذ ربما يدفعها للاختيار غير الدقيق الناجم عن ضيق
 الوقت.
المقترح الثاني: قيام الحكومة بالطعن دستورياً في نص المادة (58) من قانون الموازنة العامة أمام المحكمة الاتحادية، وعندها ستسقط هذه المادة دستورياً، وأنا بذلك زعيم – من الناحية الدستورية- ؛ وآنذاك تتحلل الحكومة من القيد الزمني؛ ويتخلص البرلمان من الإحراج الناجم عن عدم القدرة على حسم الملف خلال المدة المضروبة سلفاً. وتستطيع المحكمة الاتحادية إيلاء الأولوية لهذه الدعوى؛ بغية الإسراع في حسمها . لكن المقترح الأول يبقى هو الأولى والأوفق ؛ لما ذُكر آنفاً.
 
المسألة الثالثة: ما مصير المكلفين بالوكالة؟ 
يمكن أنْ نقسم الملاكات العاملة بالوكالة إلى فئاتٍ ثلاث ، لكل واحدةٍ منها حكمٌ خاص:
الفئة الأولى: وتشمل أولئك الذين خدموا الدولة بالوكالة، ويتمتعون بالنزاهة وحسن السمعة والخبرة، فهؤلاء يجب عدم التفريط بهم والقيام بتثبيتهم أصالةً ؛ للإفادة من خبرتهم من جهةٍ، ولكي يشعروا بالأمن الوظيفي وحماية الدولة لهم جزاءً وفاقاً لما قدموه وما كابدوه من جهةٍ أخرى . فلقد أسلفنا القول إنَّ المعيار الرئيس في ملف الإدارة بالوكالة هو المعيار الموضوعي القائم على مراعاة شروط النزاهة والخبرة والتخصص، وليس المعيار الشخصي القائم على مجرد التغيير للتغيير، أو مجرد تغيير زيدٍ بعمرو.
الفئة الثانية: وتشمل بعض المكلفين بالوكالة من الذين يتمتعون بالنزاهة، دون الخبرة، والمعروف عنهم الضعف أو الفشل الإداري؛ فمثل هؤلاء يجب إقصاؤهم عن مواقعم، والإفادة منهم بدلاً عن ذلك في مواقع أدنى تتناسب مع قدراتهم.
الفئة الثالثة: وتشمل أولئك الذين تواترت الأدلة على فسادهم وعدم نزاهتهم ؛ فمثل هؤلاء يتعين إقصاؤهم، وعدم تعيينهم في أي موقعٍ إداريٍ، صغر أو كبر!!