الجماعات السياسيَّة في العراق: إشكاليَّة الانفصال والاتصال!

العراق 2019/07/01
...

د. علاء حميد
 
 
تضعنا مطالعة الحلقات السبع (4479، 4486، 4493، 4495، 4500، 4504، 4510) التي كتبها الأستاذ جواد كسار بجريدة "الصباح" عن الوزير محمد جواد ظريف في حالة من الاطلاع على الكيفيَّة التي تتم فيها صياغة دور النخبة السياسيَّة في المشهد الإيراني، إذ يكتنفُ هذا المشهد الكثير من الصراع غير المرئي بين قوى وأجنحة سياسيَّة لها رؤى وأفكار تعبر عن وجهة نظرها للدولة وعلاقتها بالمجتمع، والاقتصاد، والجوار الإقليمي، وغيرها من القضايا.
الملفت في ما عرضه الأستاذ كسار إنَّ مصادر بناء الطبقة الإيرانيَّة "الجامعة، المؤسسة الدينيَّة/ الحوزة، البازار، الأجنحة السياسيَّة، الحرس الثوري" تمرُّ بشكلٍ متباينٍ في دورات صعود ونزول، وبمعنى آخر، نجد أنَّ مصدر تكوّن الطبقة السياسيَّة في بعض المراحل السياسيَّة يكادُ ينحصرُ في مصدرٍ واحدٍ أو لونٍ سياسيٍّ معينٍ، ثم يبرزُ مصدرٌ آخر ليزيح الذي سبقه، وهكذا.
ولهذا نلاحظ أنه في أعقاب مرحلة انتهاء الحرب التي دارت مع العراق (1980 – 1988) وبداية رئاسة هاشمي رفسنجاني (1989 – 1997)، أصبحت ملامح تلك المصادر تتضحُ، لأنَّ الصراع انتقلَ من الخارج الى الداخل، إذ كان الإطار العام للتقسيم السياسي يقعُ بين توجهين هما "روحانيت/ وهم رجال الدين المجاهدون، والتشكيلات التي تنضوي تحت هذا التوجه" و"روحانيون/ الذي يضم أهم تشكيل سياسي وهو منظمة مجاهدي الثورة"، مع تعدد التيارات داخل كل توجه فيهما، وربما الانتباه الى طريقة الصراع والتدافع السياسي للوصول الى السلطة في إيران، يدفعنا الى وضع سؤال حيوي بعد 2003، كيف يتم إنتاج الطبقة السياسيَّة في العراق؟.
قبل 2003، كان إنتاج تلك الطبقة السياسية محصوراً بالحزب وشبكة علاقات السلطة وامتداد القرابة داخلها، ثم بعد ذلك أخذت دائرة إنتاج الطبقة تضيق وتُحددُ بالعشيرة، ثم بالعائلة ومن يرتبط بها اجتماعياً وسياسياً، بعيداً عن الاشتباك مع مفهوم الطبقة والنخبة، لأنَّ الحال في النموذج العراقي غير مستقرة على شكل معين واضح نستطيع منها التماس الفرق والاختلاف بين مفهوم النخبة "Elite"، والطبقة "Class"، إذ إنَّ الملاحظ في العالم العربي والعراق بشكلٍ خاص، ظاهرة إنتاج الطبقة من قبل السلطة، ولذلك تختفي الطبقة بعد انهيار تلك السلطة أو ذهابها، ليتأكد لنا الانفصال القائم بين المجتمع والسلطة السياسيَّة الحاكمة، إذ لا نستطيع القول إنَّ هناك طبقة ظهرت نتيجة مخاض اجتماعي يعبر عن تمايزٍ واضحٍ له سماته الثقافيَّة والسياسيَّة، ويؤكد الاختلاف بين أفراد المجتمع وشكل السلطة، أننا أمام ثنائيَّة "السلطة - الطبقة" التي تعمل بشكلٍ مقلوبٍ، إذ تنتج السلطة طبقة تكونُ مرتبطة بها، وهي غير حقيقيَّة؛ وبتعبيرٍ ماركسي "طفيليَّة"، ويفسرُ هذا الاختلال الحاصل بالتراتبيَّة القائمة في المجتمع، إذ تغيب الطبقة الاجتماعيَّة المستقرة التي تحتاجُ الى الدولة لكي تديم بقاءها وتؤمن 
مصالحها.
إنَّ المتاح في العراق هو تشكيلات اجتماعية "Social Formations" غير ثابتة، يتغير وضعها مع اختلاف حال السلطة، والدليل غياب التقاليد التي تحكم الصراع السياسي، فعلى أي أسس يجري هذا الصراع؟، ما تقدمه حلقات الأستاذ كسار لنا من عرضٍ وتحليلٍ لخفايا إنتاج الطبقة في إيران والتي بعد ذلك تتحول تدريجياً الى نخبة سياسيَّة، على العكس منه في العراق، إذ تظلُ قضية الطبقة وشكلها العام، مرهونة بالتغير شبه الدائم لمضمون الدولة، فلو تساءلنا ما هي التشكيلة الاجتماعيَّة التي كانت تقوم عليها سلطة البعث منذ (1968 – 2003)؟ نجد أنَّ البعث (1947 – 2003)، مرّ بثلاث مراحل تاريخيَّة واجتماعيَّة (1947-1963، و1968- 1978 و1979- 1990)، تمكنت التشكيلة الاجتماعيَّة القادمة من الريف من السيطرة عليه ومن ثم التحكم بمقاليد السلطة، هذا الطابع الاجتماعي جعل مضمون السلطة يعتمدُ على التعبئة الشعبويَّة وبناء شبكة من الأتباع
 الموالين.
 
ماذا جرى بعد 2003؟
يصعبُ فهمُ الذي حصلَ منذ تغيير النظام ولغاية الآن؛ من دون مراجعة تاريخ القوى السياسيَّة التي عارضت البعث وسلطته، والتحولات الاجتماعية التي مرّ بها المجتمع العراقي خلال فترة العقوبات الدوليَّة (الحصار الاقتصادي)، ففي هذه المرحلة تمَّ وضعُ المجتمع بأكمله تحت طائلة الفقدان والندرة لأغلب متطلبات الحياة، وحين نقارن بين مراحل تكوّن الطبقة السياسيَّة الإيرانيَّة والعراقيَّة، نجد أنَّ هناك اختلافاً في خطوات التكوين والتبلور، وهذا راجعٌ الى بنية التشكيلات السياسيَّة التي عارضت النظام في البلدين، ففي إيران نجد أنها انطلقت من تصورات فكريَّة وسياسيَّة قدمتها في كتبٍ ومحاضرات، بخلاف ما قامت به المعارضة السياسيَّة لنظام البعث، إذ حصرت معارضتها في شخص رأس النظام وأفعاله، ولذلك لم تكن تلك القوى السياسيَّة تعارض النظام فكرياً وسياسياً، وإنما نلاحظ وجود نوعٍ من الشخصنة في أسلوبها، كما أنَّ القوى السياسيَّة في إيران بعد قيام الثورة انقسمت الى يمين ويسار تختلفُ في رؤيتها للاقتصاد ونظام الحكم ومستوى ولاية الفقيه وتأثيرها في الدولة، أما في العراق، وحين تشكلت قوى المعارضة داخلياً، فانفصلت عن السياق العام الذي تعمل فيه - المجتمع العراقي-، ما دفعها الى أنْ تمارسَ وظيفة المعارضة الإعلاميَّة عن بعد، من دون المبادرة الى البحث عن الجانب الفكري والسياسي في عملها، لكي يمنحها القابلية على وضع تصورٍ واضحٍ لمرحلة ما بعد صدام.
لقد تحوّلت المعارضة العراقيَّة مع وجود عناوين حزبيَّة في أغلب قواها، الى جماعات سياسيَّة فقدت قدراتها التنظيميَّة والتعبويَّة، لا يربطها داخلياً سوى تاريخ سياسي مشترك ومصالح فئويَّة، وهو ما كشفته بشكل واضح "ظاهرة حركة السيد محمد محمد صادق الصدر 1992-1999"، التي فضحت ذلك الانفصال بين تلك الجماعات السياسيَّة والقواعد الجماهيريَّة (المجتمع)، وبالعودة الى ما عملته المعارضة الإيرانيَّة قبل 1979 وبعده، نرى أنها مارست دورها في ضوء ثنائيَّة "النص – الممارسة"، بعيداً عن قبولنا بتلك النصوص أو رفضها، إلا أنَّ المعارضة الإيرانيَّة وضعت العديد من النصوص والطروحات الفكريَّة التي بيّنت فيها ما تريده من تغيير النظام، فما كتبه السيد الخميني ومهدي بازركان، والشيخ المنتظري، وما كانت تقدمه "حسينيَّة الإرشاد" من آراءٍ وأفكارٍ، تحوَّلت الى مادة للحوار والنقاش بين القوى السياسيَّة والاجتماعيَّة التي عارضت نظام الشاه، وهذا غير موجودٍ في نشاط المعارضة العراقيَّة.
بقي إنتاج الطبقة السياسيَّة في العراق بعد 2003، مرتبطاً بحالة الحزبيَّة والقوى التي تمتلكُ قوَّة السلاح، ولو قارنا بين سياق تولي منصب وزير الخارجيَّة في البلدين، لوجدنا أنَّ هناك سبعة وزراء خارجية في إيران منذ 1979، جاؤوا من تشكيل فكري وسياسي هو "الاتحاد الإسلامي للطلبة" الذي تأسس في العام 1966 في ألمانيا وكانت له فروعٌ في عدة دول في أميركا وأوروبا وآسيا، داخل هذا التشكيل صراعٌ فكريٌّ عبَّرت عنه حلقات فكريَّة اجتماعيَّة، كما حصلَ بأميركا في حلقة تكساس وبركلي التي كان في إحداها محمد جواد ظريف، أما في عراق ما بعد 2003 فهناك ثلاثة وزراء تولوا الخارجيَّة؛ اثنان حزبيان وآخر قبلت بتوليه المنصب قوى سياسيَّة حزبيَّة.
في النموذج الإيراني، ومع كل الجدل الذي يدور حوله، نجد هناك إصلاحيين ومحافظين يتصارعون حول من هو الأجدر بإدارة الدولة، وهم أيضاً مختلفون بشكلٍ ملموسٍ، على العكس من الذي حصل في العراق بعد 2003، فهو لا يقع تحت أي مسمى تصنيفي سياسي، ولذا نتساءل: من هم الإصلاحيون والمحافظون في ما يجري سياسياً، فمع وجود التسميات الحزبيَّة التقليديَّة، إلا أنها بلا هويَّة سياسيَّة واضحة ومحددة فكرياً، وهذا ما دفع أغلب تلك التشكيلات السياسيَّة الى التركيز على التعبئة والمصلحة ليكون لها إطارٌ في العمل والممارسة.
 
السلطة وإنتاج الطبقة !
يقعُ في صلب فهم موانع ظهور طبقة اجتماعيَّة وسطى في العراق، واضحة المعالم على عاتق العديد من العوامل "اجتماعيَّة، سياسيَّة، اقتصاديَّة"، والتي منعت تكونها، ولكنْ قبل ذلك ربما نحن بحاجة الى مراجعة دلالة الطبقة ومدى تحققها في العراق، يضعنا المؤرخ الاجتماعي حنا بطاطو أمام تحدٍ علمي بشأن إمكانيَّة فهم عدم ثبات شكل ومعنى الطبقة في المجتمع العراقي، ولهذا يقول: "إنَّ الطبقات في العراق كيانات غير مستقرة نسبياً، على الأقل منذ فترة 1914، وبالطبع فإنَّ البنية الطبقيَّة لا تتميز، من حيث المبدأ، بالثبات، غير أنَّ الوضع في العراق اتسم بحركات دخولٍ وخروجٍ سريعين من وإلى الطبقات القائمة"، ربما إنَّ التأثير الذي يوجده اللاستقرار على منع تشكل الطبقة، أحد المداخل التي تساعدنا على فهم عدم تبلور طبقة وسطى، إذا أخذنا بنظر الاعتبار أنَّ الطبقة بالمجمل هي بناءٌ اقتصاديٌّ يعتمدُ على الموقع الاجتماعي والملكيَّة للأفراد، والتي تكشفُ عن التفاوت بين طبقة وأخرى، ولذلك حين نضع معيار الملكيَّة والتفاوت كمقاربة، نوظفها في تحليل عدم تبلور الطبقة في العراق، نلاحظ هناك إشكاليَّة اجتماعيَّة، مؤداها أنَّ التجاور القائم بين الفئة والطبقة وربما يصل الى أنْ يتداخلا من دون تميز أو فصل، هذا التداخل أفقد هذا التشكيل الاجتماعي -الطبقة - تبلور حس مشترك إزاء الانتماء الطبقي والذي يعبر عنه الماركسيون "الوعي الطبقي"، بمعنى آخر، هل يعي هؤلاء الأفراد الذين نصفهم بأنهم طبقة وسطى بانتمائهم لها، ويدركون أنَّ هناك شبكة مصالح تربطهم بها ويتفاعلون على أساسها؟.
هذا التساؤل يعيدنا مرَّة أخرى الى فحص إشكاليَّة التجاور المستمر بين "الفئة والطبقة" في العراق، حين نعاين دلالة الفئة نجدها تعبِّرُ عن تجمعٍ لأصحاب حرفة واحدة، ولهذا يرتبطون في ما بينهم على أساس "الممارسة والإنتاج" للسلع والحاجيات التي يستهلكها المجتمع، ولكن يبقى دوام وجود الفئة متعلقاً بالعرض والطلب وتقلبات السوق، إذا الفئة بشكل شبه مستمر عرضة للتغيير والتحول، أما الطبقة فهي تكونٌ اجتماعي يقيدانه "الموقع والملكيَّة"، كما لا يشترط في الطبقة التشابه الحرفي أو المهني، بل التفاوت من أجل ديمومة السمة الاجتماعيَّة لأصحابها، فهناك في الطبقة الوسطى مهنٌ مختلفة وقابليات شخصيَّة ومعرفيَّة متباينة.
إنَّ التفاوت قد يكون عاملاً مؤثراً في صياغة الوعي الطبقي، والذي في أغلب الأحيان يصاغُ سلبياً ويصبحُ الانتماء الى الطبقة طارئاً وغير مستقر، كما علينا ألا ننسى وجود أكثر من تشكيل اجتماعي يزاحمُ الطبقة على ثباتها وديمومة بقائها، إذ إنَّ هناك العشيرة والطائفة، وهذه التشكيلات لا تقوم على أساس رابط اقتصادي، بل ما يغذي استمرارها روابط الدم والنسب والاعتقادات الدينيَّة، على العكس من الطبقة وحاجتها الى عملٍ وإنتاج وسوق لكي يظهر التفاوت تتضح ملامح الملكيَّة، لقد وفرت العشيرة والطائفة متطلبات التضامن الاجتماعي الذي يحتاجه المنتمون إليها، ولم تتمكن الطبقة من إيجاد ذلك لأنها صياغة من خارج السياق الاجتماعي والتاريخي للمجتمع في العراق، وهذا ما يؤكده بطاطو " التوكيد بأنَّ الطبقات في العراق هي، والى حدٍ كبيرٍ، نتاجٌ التدريجي للبلاد، خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، بسوق امبريالي بريطاني، يقوم على الصناعة الكبرى، أما قبل ذلك، فإنَّ الملكيَّة الخاصة، بمعنى الاستيلاء الخاص على وسائل الإنتاج، كانت غائبة خارج مدن العراق والأراضي المجاورة لها، بل كانت غائبة حتى عن المدن ذات الأساس
 المهزوز".
ومع كل هذا يبقى هناك الكثير لكي نحلله ونفهمه من أسباب متعددة تكشفُ عن موانع ظهور طبقة اجتماعيَّة، إذ علينا الانتباه الى أنَّه منذ تأسيس الدولة في العراق العام 1921 ولغاية اليوم بقي الاقتصاد تابعاً للسياسة، فهي من تتحكم به وتتدخل في شكله، والدليل بشكل مبسط، إننا لو قارنا بين قدرة البازار الإيراني والشورجة العراقيَّة بما يحتوي الاثنان من تجار وملاك على تأثير كل منها في السلطة في بلده، من نجد له التأثير والفاعليَّة في ذلك؟
 
• باحث في مجال الانثروبولوجيا