علي لفتة سعيد
تمرّ الدول عبر عبير التاريخ بمخاضات عديدة، تشمل الحروب، والفقر، والمجاعات، والصراعات الداخلية مثل الحروب الأهلية والنزاعات المجتمعية، التي تصل إلى حد تمزيق أواصر الوحدة داخل البلد الواحد. هذا الأمر لا يتوقف عند حقبة زمنية محددة أو تاريخ بعينه، بل هو جزء من طبيعة الإنسان، التي ارتبطت بالحاجة إلى موارد جديدة، وفرص عمل أوسع، كلما تضاربت المصالح وقلت الموارد المتاحة.
تلك الوقائع أضحت فرضيات صحيحة، دخلت ضمن أولويات التحليل الفلسفي الذي يبحث في أسباب الحروب بعد انتهائها. تختلف هذه التحليلات عن تلك التي تُجرى أثناء الحروب، حيث يطغى الجانب العاطفي والتعبوي خلالها، بينما يُركّز التحليل بعدها على الجانب العقلي، الذي يسعى إلى إيجاد حلولٍ لتجنّب تكرارها في المستقبل.
لقد أصبحت هذه القضايا جزءًا من التاريخ البعيد والقريب والحالي، حيث تُحيط المخاطر أغلب بلدان العالم. وقد دفع ذلك الدول إلى إعداد العُدّة لمواجهة ما يُعرف بالتحديات، بهدف تجنيب شعوبها وبلدانها الوقوع في أزماتٍ كبرى، خاصةً عندما تكون الحروب المتوقّعة ناتجةً عن تدخلات جيوشٍ رسمية أو مجموعاتٍ غير رسمية، كالفصائل المسلحة والأحزاب غير الحكومية.
هذه الكيانات غالبًا ما تستغل ضعف الدولة في فتراتٍ زمنيةٍ محدّدةٍ لتُمارس نفوذها، مستفيدة من دعم دول أخرى لها مصالح في زعزعة استقرار تلك الدول، كما حدث مع عصابات "داعش" وقبلها تنظيم "القاعدة" في المنطقة المحيطة بالعراق.
ولكن السؤال الذي يبرز هنا: ما السبيل لتجنّب اندلاع الحروب والمعارك، لا سيما داخل المجتمع والحدود الوطنية؟ وما هي التدابير اللازمة لتقليص الخسائر ومنع اتساع رقعة النزاعات؟
أحد أهم التجارب التي مر بها العراق ليست فقط تحديات تنظيم "القاعدة" أو التفجيرات الإرهابية التي شهدها بعد عام 2003، بل تجربة مواجهة "داعش". كانت تلك المرحلة تتويجًا لتحوّلات سياسية، استمرت أكثر من أحد عشر عامًا.
اليوم، بعد النصر على "داعش"، تواجه البلاد تحديّاتٍ من نوعٍ آخر، تتعلّق بالتغيّرات الحاصلة في سوريا، ومنها تغيير النظام هناك، وما قد يترتّب عليه من نشوء سلطاتٍ ضعيفةٍ تُمهّد الطريق لجهاتٍ مسلّحةٍ مدعومةً خارجيًا، تُهدد الاستقرار في المنطقة. وهذا بدوره قد يُفضي إلى تفجّر الأوضاع في الداخل السوري وربما يمتد أثره إلى العراق.
لذا، ليس من المهم فقط وضع خطط لمواجهة التحديات الخارجية، بل الأهم هو تعزيز التماسك الداخلي، بحيث لا تؤثّر الأزمات الخارجية عليه. بمعنى أن الأسباب التي أدّت إلى سقوط مناطق عراقية بيد "داعش" عام 2014 لا ينبغي أن تبقى قائمة في عام 2024. يجب العمل على القضاء على عوامل نشوء الجماعات المسلّحة ووجود الحاضنة الاجتماعية أو الدينية التي تدعمها.
إن الهدف الأسمى في الانتصار على التحديات يكمن بالمحافظة على المكاسب الاجتماعية الرافضة لأيّة محاولاتٍ جديدةٍ للتوغّل أو الصراع.، وعلى الجهات السياسية والمجتمعية العمل معًا لتعزيز الوحدة الوطنية، فهي الضامن الأكبر في مواجهة المخاطر الخارجية، مهما اختلفت المصالح الداخلية.
إن التهديدات الخارجية تهدف إلى زعزعة الأسس القائمة، وإحلال أخرى تخدم مصالحها. وبالتالي، فإن المطلوب هو التركيز على تعزيز الوعي الوطني، والعمل على نشر ثقافة التعاون والتكاتف بين مختلف الجهات السياسية والاجتماعية.
إن فلسفة التخطيط تكمن أولًا في تقوية الداخل الاجتماعي والسياسي وتوحيد الخطابات المتعدّدة سواء الدينية والسياسية والثقافية، حينها سيجد الجميع أن الخارج أضعف مما يمكن تصوّره. بمعنى كلّما قويت الجبهة الداخلية ووعيها بخطورة التحديات الخارجية، كلما ازدادت قدرتها على التصدّي لها والقبض على لحظة انتصار، أسرع في زمنها ومكانها.