في المدينة!

الصفحة الاخيرة 2019/08/03
...

 جواد علي كسّار
في ليلتنا الأولى بالمدينة المنوّرة كنتُ تعباً بعد رحلة طويلة ومتعبة، حيث لم ننم في الليلة السابقة إلا اللمم، لذلك كله اكتفيتُ بزيارة سريعة إلى المرقد النبوي الشريف، مع الصلاة في مسجده. وأظن أنني بدأت الختمة القرآنية الخاصة بساحة النبي الأقدس إلى جواره وفي مسجده، كما هو دأبي دائماً.
للصلاة والتعبّد لذة عند رسول الله صلى الله عليه وآله، في حرمه ومسجده ومدينته، يعرفها من جرّب ذلك، ويستطعمها كلّ من زار طيبة. من مقتضيات أدبي إزاء النبي، أن أختم القرآن مرّة في المدينة وأخرى في مكة أهدي ثوابها إلى رسول الله صلى الله عليه وآله، أو أن أختم القرآن بين الحرمين المكي والنبوي مرّة واحدة على الأقلّ، كما في مواسم العمرة حيث لا تزيد الرحلة على الأيام العشرة، أهديها إلى خير الورى. وهذا كله من نِعَم الله عليّ، وهو من هباته سبحانه، ومن فضله وفضل النبي: ﴿وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ﴾ (التوبة: 59). ﴿وَمَا نَقَمُوا إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾ (التوبة: 74).
ونحن في المدينة لا همّ لنا سوى التعبّد إلى جوار رسول الله. فقد منّ الله علينا بزيارة سيّدة البلدان التي قال فيها النبي المصطفى، كما في المروي عن ابن عمر: «ما طلع النبي صلى الله عليه وآله على المدينة قافلاً من سفرٍ قطّ إلا قال: يا طيبة يا سيّدة البلدان». (الحج والعمرة، ص 472، ح 818). وله الحمد أنه سبحانه لم يمتحننا بالأسواق ومغرياتها وما أكثر هذه المغريات، وما أخسر صفقة الحاج والمعتمر عندما ينزلق إلى الأسواق ومغرياتها. فأنا أعتمد ستراتيجية خلاصتها أن لا أذهب إلى الأسواق، ولا أنفق من وقتي فيها شيئاً، إلا ما قد يحصل بالعرض ونادراً، أما لحاجة بعينها، أو مرافقة لصديق، بشرط أن يتمّ ذلك سريعاً، ودون هدر للوقت.
في يوم الخميس زرنا الحرم النبوي في النهار، ثمّ أمضينا الليل كله (ليلة الجمعة) هناك، متنقلين بين الروضة الشريفة وبقية بقاع المسجد، متعبّدين لربنا بما يسّر ووفق، بشرط أن نأخذ التوفيق مقروناً بشروطه التي يقول الإمام أمير المؤمنين في بيان جملة منها، بقوله: «من سأل التوفيق ولم يجتهد فقد استهزأ بنفسه».
أجل، من يربط كلّ شيء بالتوفيق، ثمّ لا يشغل نفسه بتهيئة ما يستطيع من مقدّمات فهو هازئ؛ فمثلاً حين يمضي الحاج وقته بالنوم المريح تحت أجهزة التكييف، والغسل في الحمامات اللطيفة، والانكباب على الأطعمة وثقافة البطن، وإزجاء الوقت وهدره في الأسواق والتجوال في مختلف الطرقات، ثمّ لا يعطي لزيارة الحرمين والتعبّد والصلاة والتسبيح والتهليل والصلوات والاستغفار وقراءة القرآن والتأمل في المدينة النبوية وفي المسجد؛ أقول من يفعل ذلك كله ويمضي به وقته، ثمّ لا يعطي للحرمين الشريفين إلا النزر القليل من وقته، ويرمي ذلك كله على سوء التوفيق، وإن هذا هو حظه من الزيارة؛ من يفعل ذلك إنما يستهزئ بنفسه ويستخفّ بالمكان والمكين، ومن ورائهما بربه. والحقّ أن على الإنسان أن يجعل الحرمين شغله الشاغل، وأن تكون العبادة هي العمود الفقري لزيارته.
أكرّر على الدوام من دون تعب ولا ملالة، إن آفة شهر رمضان هو «الطعام»، وآفة الحج والعمرة هي «الأسواق»، صرف الله نفوسنا للاشتغال بذكره وعبادته فيما يوفق إليه من مواسم حجّه وعمرته