المتطرف المهزوم
العراق
2019/08/03
+A
-A
عصام عباس أمين
المهزوم المتطرف يشعر بالسقوط من عليائه... وبدلا من ان يقول اني خاسر ومهزوم حقا وحقيقة.. نراه يريد ان يظفر بما ظفر به الاخرون... متحولا من مهزوم خاسر وقانع الى مهزوم متطرف... فهو في العادة يكون غارقا في الوحدة والعزلة.. لا يصول ولا يجول، بل يتصرف بنحو لا يثير الشك من حوله... يظل غير مرئيا ومنغلقا على نفسه ليصبح صعبا علينا التكهن بنزواته مسبقا... وهذا الوصف فيه اختصار شديد لمنفذي هجمات الذئاب المنفردة التي حيدت الاجهزة الاستخبارية وعطلت واحدة من اهم مهامها وهي التنبؤ.
خطورة الحالات الفردية لهؤلاء الجناة المعزولين تزداد اذا ما اهتدوا الى السبيل الموصل بهم الى جماعة من الناس تخفف عنهم ويلات العزلة وبدؤوا ينظمون انفسهم. فهم يعانون بصورة شديدة من ضغوط حياتية كبيرة يصعب تحملها... فالواضح ان التقدم الحاصل بالعالم في مختلف المستويات لم ينجح في استئصال شأفة البؤس والشقاء، بل غير طبيعتها فقط.. ففي القرنين الاخيرين وبفعل التقدم ظهرت مفاهيم جديدة دفعت بالكثيرين من بني البشر الى الحلم بتطلعات لم تكن معهودة سابقا... اضافة الى أن التقدم الحضاري والعلمي ابطل الاعتقاد بالقدر المكتوب، ووضع على طاولة النقاش مفاهيم من قبيل كرامة وحقوق الانسان وشرعية النضال من اجل احترام حرية الفرد وتحقيق المساواة بين الجميع. واذا كانت مثل الحقوق والمفاهيم الجديدة قد اصبحت جزءا من المنظومة القيمية في جانب معين من العالم، فللأسف راينا على الجانب الاخر منه تناميا كبيرا للشعور بالخيبة مع كل تقدم تحققها هذه المجتمعات... فالمهزوم المتطرف يبدأ والحالة هذه يعاني من وسواس قهري يتجسد من خلال مقارنة وضعه بحال الاخرين. وكلما امعن النظر اكثر بواقعه اكتشف انه يحتمل اكثر مما يطيق.. ويزيده السؤال عن تعليل الظلم الواقع عليه الما ولوعة وذلك لاعتقاده ان الذنب ليس ذنبه ولابد من العثور على المسبب لكل ذلك. وهذا الشعور الحاد بالحرمان النسبي يشكل مصدر قوة شديدة للمهزوم المتطرف للانتقام من الاخرين ولاسيما انه في كل لحظة وموقف يمر به يقوم بتحميل الاخرين وزر ما يعانيه فهو ليس اكثر من ضحية... والمخرج الوحيد المتاح امامه من هذه الازمة النفسية المستعصية سيكون من خلال الدمج بين تدمير الاخرين وتدمير الذات... ومن المهم هنا ملاحظة الشعور العميق لدى المهزوم المتطرف بانعدام القيمة والاهمية، لذا يكون من الطبيعي ان تتقدم لديه دائما اسباب تدمير الذات قبل تدمير الاخرين.
ان القاء نظرة سريعة على حركات التمرد التي شهدها العالم وظهور العديد من الحركات والجماعات المسلحة سواء كانت يمينية او يسارية، تكشف لنا ان اغلب هذه الحركات كانت تمول نفسها من خلال النهب والسلب وعمليات الابتزاز والمتاجرة بالمخدرات وتطلق على نفسها نعوتا من قبيل جيش او الوية او فرق وتصدر بيانات رسمية بعبارات منمقة مصورة نفسها انها تتحدث باسم جمهور معين. وجميع هذه الحركات كانت تمثل تجمعات لمهزومين متطرفين... ولأنهم متأكدون من تفاهة حياتهم لذا فانهم لا يأبهون كثيرا بحياة الاخرين... وخاصة الابرياء فهؤلاء لا يميزون بين الاساءة للذات والاساءة للآخرين.
على المستوى العالمي يلاحظ اليوم بروز داعش كحركة اسلاموية جهادية تحاول وبكل اصرار ان توظف الطاقة الدينية الكامنة للدين الاسلامي المنتشر في جميع قارات العالم. صحيح ان الامة الاسلامية متفرقة وتئن تحت وطأة الصراعات الوطنية والاجتماعية.. الا ان ايديولوجية الحركة الاسلاموية أمست تجسد وسيلة مثلى لحشد المهزومين المتطرفين وذلك لأنها نجحت في توحيد المسوغات الدينية والسياسية والاجتماعية في بوتقة واحدة. لذلك وجدنا محاربين مرُعِبين من كل انحاء العالم يتجمعون في العراق وسوريا ويعيثون الفساد في الارض من خلال تفسيراتهم ومحاجاتهم بالنص القرآني المقدس. وهنا اتفق كثيرا مع ما ذهب اليه الاستاذ (خزعل الماجدي) بان اركان الاصولية الاسلامية المتمثلة بالقرآن، والسنة، والاجماع، والقياس لم تخضع بصورة عملية للنقد والتمحيص فبقي الفكر الاسلامي منغلقا على نفسه بسبب خطورة تناول المقدس في البحث. واخطر ما في هذه الاصولية الاسلامية ايمانها المسبق بالحتمية وان التاريخ خاضع في حركته لقوانينها... فالنصر في النهاية هو أمر حتمي يخص به الله من يشاء من عباده الصالحين... والواجب يحتم فضح المنحرفين والراجفة قلوبهم والخونة اينما كانوا فقائمة اعداء الاسلام تشمل امريكا، الغرب المنحط، راس المال الدولي، والصهيونية... وتطول قائمة الاسلامويين لتضم جميع الكفرة البالغ عددهم خمسة مليارات من بني البشر، بضمنهم مسلمون من الشيعة والكرد والصفويين والخوارج والاسماعيلية ومن سواهم من الطوائف الاخرى.
كان للعولمة دور كبير في تفاقم الشعور بالحرمان لدى طيف واسع من البشر، يمكن ان نطلق عليهم المسحوقين ونقصد بهم من سحقتهم العولمة بتروسها القاسية، واسوأ ما نجم عن ذلك هو الدفع باستمرار لانكفاء الحضارة الاسلامية ودفعها اكثر باتجاه القاع في عالم بات سريع التحول والتطور، ليبقى السؤال الأكثر أهمية كيف تدهورت تلك الحضارة المتمحورة حول الدين الاسلامي؟ كيف هزمت تلك الحضارة الاسلامية،والمسلمون معهم ام الكتاب؟! كيف للعربي ان يقبل بكل هذا التدهور فالتخلف العلمي والتقني والصناعي بات امرا محيرا ولا يمكن تفسيره او تجاهله او السكوت عنه. وازاء كل ذلك يحاول الاسلامويون تفسير هذا التدهور بمؤامرة كونية تشترك فيها امريكا والصهيونية والغرب الكافر للنيل من الاسلام ومن الامة العربية... في حين نجد بالمقابل دراسات اخرى بحثت في لب المشكلة بعيدا عن العواطف والانحياز ومنها (الزمن المختوم: حول ركود العالم الاسلامي) لدان دينر والتي انطلقت من اعتبار تراجع أس المال المعرفي في المجتمعات العربية أس مشكلة التخلف والركود، فمن خلال طباعة الكتب مثلا يناقش دينر عدم وجود راي عام ينظم نفسه، فمنذ القرن الخامس عشر اعاق الفقهاء المسلمون استخدام وسائل الطباعة الحديثة، وبعد تأخير ثلاثة قرون جرى تأسيس اول مطبعة قادرة على طبع الكتب بالخط العربي. ومن النتائج المباشرة للقصور المعرفي هذا، تأخر العرب في بسط النفوذ في البحر والتجارة الخارجية، كما ظلت الهياكل التحتية في البلدان العربية حتى القرن التاسع عشر بمستوى ما كان سائدا في القرون الوسطى. ولولا العائدات البترولية لكان الاداء الاقتصادي لمجمل العالم العربي اقل قيمة من اداء شركة واحدة من الشركات العملاقة المتخصصة بالهواتف الذكية. وهذا التدهور نفسه يمكن ملاحظته في المؤسسات السياسية الغارقة بالفساد والمحسوبية والرشوة وفض النزاعات بقوة السلاح. اما موضوعة المرأة التي تشكل نصف المجتمع فهي احدى اكثر المعضلات تأصلا في التاريخ العربي. وغني عن البيان النتائج الوخيمة الناجمة عن تعطيل النساء ومنعهم من التعليم او مشاركتهم في الحياة الاقتصادية.
ان التبعية الاقتصادية والتكنولوجية والثقافية للغرب عظيمة الوطأة على العرب المسلمين، فكل ما يحتاجه المرء في العالم العربي الاسلامي يستورده من الغرب ويجسد ذلك شعورا مستديما بمحنة أمة بكاملها، وهي تجترح يوميا الشعور بالإهانة والتخلف لكن بصمت. هذا الاحساس بالخسران يشتد اكثر بفعل عامل ثقافي محدد، فهو يتعارض تعارضا تاما مع نظرة العربي المسلم الى ذاته... الم تفضلهم القوة العليا على جميع المجتمعات الاخرى؟ (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أخْرِجَتْ لِلنَّاسِ).. ولا ينتهي هذا التفوق هنا بل ان هناك امرا الهيا واضحا ورد في الآية 29 من سورة التوبة تامر العرب المسلمين بعبارات لا لبس فيها بضرورة انتهاج الاسلوب الذي يمكنهم من ان يفرضوا تفوقهم اللازم.
(اتِلُوا الَّذِينَ لَايُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَابِالْيَوْمِ الْآخِرِوَلَايُحَرِّمُونَ مَاحَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَايَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِين أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّىٰ يُعْطُوا الْجِزْيَةَعَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ). وبما اننا هنا ازاء اقرار ورد في نص مقدس لذا فانه ساري المفعول بنحو مطلق ولا يمكن للتجربة المعاشة ان
تدحضه. وهكذا يرى انتسنسبيرغران العرب ظلوا متمسكين بتقييم زائف لدورهم التاريخي، ليصبح بالتالي التفوق
المذكور في القران الكريم فخا مذهبيا، فهذا التفوق ما عاد يتفق مع معايير الحداثة طبعا.
انهم يعانون من جنون الاضطهاد، ويتمتعون في ذات الوقت بمناعة قوية حيال الحجج الدامغة والبراهين الساطعة... وهنا يتوصل انتسنسبيرغرالى خلاصة ترى لا جدوى الحوار مع هذا النوع من البشر حول شعاراتهم الخاوية وهتافاتهم المتكررة، اما حين يتعلق الامر حول اضرام النيران واخذ الرهائن وممارسة الاغتيالات او أي شكل من اشكال الارهاب، عندئذ يكون الدواء الناجع في يد اجهزة البوليس والقضاء، وان الحديث عن الحوار كدواء يشفي من كل الامراض ما هو الا خداع النفس للنفس. فالتجربة الهولندية اظهرت ان التقليل من شان الخصومات مع مهاجرين يكنون العداء لا يساعد على احتواء هذه الخصومات، بل يتسبب في تصعيدها، فالتقليل من شان هذه الخصومات يساعد على ظهور احزاب يمنية تدغدغ مشاعر العامة ويؤدي الى تصعيد العنف.
اخيرا اذا اغلقت ابواب الحوار... فلن يبقى امام المهزومين الجدد الا المزيد من التطرف في عالم تحكمه العولمة والاقتصاد الحر وراس المال المتحرك.