حركة حسن سريع.. ثورة العرفاء والمهمشين

العراق 2019/08/05
...

د. عبدالله حميد العتابي
 
ادى انقلاب 8 شباط عام 1963، ولاسيما بعد جرائم مليشيا الحرس القومي، الى مقتل اكثر من سبعة الاف عراقي، ناشرا فوق سماء العراق غيمة دموية كثيفة. وبينما كان  حكم الاعدام ينفذ بالزعيم عبد الكريم  قاسم، انطلق من عقاله ثأر مجنون يستدعي الشيوعيين من بيوتهم للتصفية الجسدية؛ وفي حين  قتل عدد من قادتهم، توفي امينهم العام سلام عادل جراء التعذيب. وفي الايام الاولى للانقلاب كانت اعداد المعتقلين تتجاوز سعة المعتقلات، ففتحت النوادي الرياضية ودور السينما وملاعب الكرة وقاعات الرياضة ومورست ضدهم ابشع صنوف التعذيب، وكان واضحا ان سعي البعث لن يتوقف عند الاجتثاث المادي الكامل للشيوعية فحسب، بل قتل الشيوعيين جميعا. ولنا ان نتساءل هل جاءت حركة حسن سريع كرد فعل للمجازر التي مورست ضد العراقيين؟ ام هي حركة تحد لحكم البعث؟ ما علاقتها بالحزب الشيوعي العراقي؟ كيف خططت تلك الحركة للإطاحة بنظام 8 شباط ؟ هل هي انقلاب  شيوعي ام ثورة عرفاء؟ كيف نفسر اسباب اخفاقها؟  وأخيرا كيف استغلها عبدالسلام محمد عارف لإزاحة البعثيين من السلطة في 18 تشرين الثاني 1963 لاحقا؟
 

الحركة والحزب الشيوعي 
  بعد مرور نحو خمسة أشهر على انقلاب 8 شباط 1963، تكون مركز شيوعي بقيادة محمد حبيب تركز نشاطه في تجمعات المراتب في وحدات عسكرية لم تكتشف سابقاً، ولم يكن لهذا التنظيم برنامج سياسي أو قواعد تنظيمية تنسجم مع أهداف الحزب الشيوعي.تعرف محمد حبيب بواسطة العسكريين المتقاعدين في التنظيم المدني على حسن سريع الذي كشف عن ارائه واستعداده للمشاركة باي عمل يؤدي إلى الانقلاب على السلطة، إذ جرى تنسيق بينهما وبين جماعتي معسكر أبي غريب والتاجي، واخذ حسن سريع على عاتقه ترتيب الأمر، بقيادته التحرك العسكري شرط ان يأخذ المدنيون أمر تهيئة الأجواء السياسية والشعبية وتهيئة عدد من المدنيين والجنود المتقاعدين والقادرين على حمل السلاح.( عزيز سباهي، عقود من تاريخ الحزب الشيوعي العراقي، ج6،
ص 573 ).
وحسن سريع شاب يساري، من جذور فلاحية في السماوة، ولد في عام 1938 في قضاء شثاثة واكمل دراسته الابتدائية  فيه، ومن ثم تطوع في المدرسة المهنية العسكرية في معسكر الرشيد، وتفوق فيها فتم اختياره معلما في المدرسة نفسها، وترقى الى رتبة نائب عريف، وتزوج فتاة من اقربائه ورزق بطفلة، وسكن في صرائف الشاكرية، وهي احدى مدن الصفيح في بغداد، وبعد انقلاب 8 شباط المشؤوم انخرط في تنظيم شيوعي اطلق على نفسه (القيادة الثورية للجبهة الشعبية ). تألف في مجمله من ضباط الصف من المناطق الفقيرة.
 
خطة الحركة
أعدت خطة حركة تموز استناداً إلى فكرة تحرك عسكري ينطلق من مركز الحركة (معسكر الرشيد) ويتبعه تحرك يشمل كل معسكرات بغداد. وكانت الخطة تتألف من قسمين: 
القسم الأول: معسكر الرشيد، ويتضمن السيطرة على المعسكر والبدء من ثلاث نقاط رئيسة مهمة وهي: 
أولاً: كتيبة الدبابات الأولى.
ثانياً: قاعدة بغداد الجوية والمطار العسكري. 
ثالثا: السجن العسكري رقم واحد. 
القسم الثاني: المعسكرات والمنظمات الساندة 
وبعد وضع الخطة حدد موعد تنفيذها في 15 ايار 1963، إلا انها اجلت بسبب حالة الإنذار التي كانت موجودة عند القوات المسلحة ومليشيا الحرس القومي، فتم تغيير الموعد إلى 24 حزيران 1963، واجل مرة أخرى إلى 5 تموز 1963، ولكن تم تقديمه إلى 3 تموز 1963 بسبب اعتقال مليشيا الحرس القومي لضابطي صف في الحركة والخوف من افشاء سرها، وكذلك نقل إحدى الوحدات العسكرية في اليوم نفسه إلى المنطقة الشمالية، وكان فيها عدد من الجنود الذين اعتمدت عليهم الحركة في التنفيذ.( جعفر عباس حميدي، تاريخ الوزارات العراقية، ج6، 
ص266).
اتجه حسن سريع في فجر 3 تموز 1963 مع مجموعة من جنود وضباط صف المدرسة المهنية العسكرية وبعض المدنيين بزي عسكري حاملين الرتب العسكرية العالية وشارات خاصة على اذرعهم للسيطرة على الباب الرئيسي لمعسكر الرشيد واستطاعوا السيطرة عليه، وهو موقع مهم لأنه يتيح للثوار اسر جميع الضباط الذين اعتادوا ان يبيتوا ليلتهم في منازلهم في بغداد والعودة في الصباح الباكر إلى مقرات وحداتهم العسكرية داخل المعسكر، واستولت مجموعة ثانية على مقر اللواء الخامس عشر، واستطاعت مجموعة ثالثة السيطرة على كتيبة الدبابات الأولى واعتقال عدد من ضباطها وقامت مجموعة رابعة بقطع شبكة الهواتف المباشرة مع المعسكر وتخريب بدالة المعسكر، وسيطرت مجموعة أخرى على قاعدة الرشيد العسكرية.(امين هويدي ، كنت سفيرا في بغداد، ص 118 )
استطاع حسن سريع وجماعته السيطرة على معسكر الرشيد بعدد  من الجنود بلغ (150 – 200) جندي واندفع بعضهم إلى السجن العسكري رقم (1) لاحتلاله والسيطرة عليه واطلاق سراح الضباط المعتقلين والمدنيين الموجودين في داخل السجن، ويقدر عددهم نحو ثلاثة الاف معتقل ومن ثم توزيع الأسلحة 
عليهم.
 
قمع الحركة 
بعد وصول خبر المحاولة الانقلابية إلى الجهات الحكومية، قام عبد السلام محمد عارف بقيادة كتيبة الدبابات الرابعة (كتيبة دبابات القصر الجمهوري) فصعد إلى الدبابة الأولى وقاد رتلاً من الدبابات نحو معسكر الرشيد.
وذكر علي سعيد "ان الدبابة التي صعد فيها الرئيس عبد السلام محمد عارف كان قائدها احد رجال الحركة والذي كان مكلفا بالذهاب بدبابته إلى الإذاعة بعد السيطرة على معسكر الرشيد وتطور التمرد للمساهمة في السيطرة عليها " واضاف علي سعيد" ان الدبابة التي كان سائقها من رجال الحركة، تفاجئ بصعود الرئيس عبد السلام محمد عارف في دبابته وامره بالذهاب إلى معسكر الرشيد مما جعله عاجزاً عن القيام باي فعل عدا قتل الرئيس عبد السلام محمد عارف، لكنه جبن امامه.(علي سعيد، العراق :البيرية المسلحة، صص 48 - 54 ).
وصل عبد السلام محمد عارف إلى معسكر الرشيد وسيطر على الموقف، بعد مباغتته للثوار في المعسكر، وعندما علم طالب شبيب وحازم جواد بذهاب الرئيس عبد السلام محمد عارف لإدارة العملية بنفسه، قررا الذهاب إلى معسكر الرشيد، لكنهما وجدا نفسيهما اسرى بيد الثوار حتى استطاعت قوة منظمة ومدربة من الحرس الجمهوري إطلاق 
سراحهما.
ووصل أنور عبد القادر الحديثي إلى معسكر الرشيد بعد انتهاء المحاولة الانقلابية، إذ ذهب إلى غرفة آمر الحرس الرئيس الأول حازم الصباغ ووجد فيها الرئيس عبد السلام محمد عارف وطاهر يحيى رئيس أركان الجيش.( جريدة الجماهير، العدد 132، 4 تموز
1963).                    
حاول الرئيس عبد السلام محمد عارف استثمار اخفاق الحركة الانقلابية لصالحه، فدعا إلى عقد اجتماع عاجل للمجلس الوطني لقيادة الانقلاب في مقر وزارة الدفاع، وتم إصدار بيان حول الأحداث واقترح احمد حسن البكر من أعضاء المجلس الوطني بتعيين الرئيس عبد السلام محمد عارف رئيساً دائماً للمجلس الوطني لقيادة الثورة فاعتراض على ذلك حازم جواد والمدنيين الآخرين، فرفض هذا الاقتراح، وهذا ما أثار عارف الذي صب غضبه على سعدون حمادي ومحسن الشيخ راضي متسائلاً: "عما سيفعله الشيوعيون بهم لو قدر النجاح، ثم اجاب: السجن لأشهر معدودة، في حين ان قتله هو ورفاقه محقق وطلب عبد السلام محمد عارف بإعدام الضباط الموجودين في سجن رقم (1) بذريعة تواطئهم مع حسن سريع ومشاركتهم في الحركة المسلحة ضد السلطة، فضلاً على ان بقاءهم على قيد الحياة سيغري الآخرين بالتآمر، وبذل أعضاء قيادة ما يسمى المجلس الوطني خاصة المدنيين جهدا لتجنب هذا الإعدام مؤكدين ان المعتقلين ليست لهم أي علاقة بما جرى، وبعد ذلك دخل عبد الغني الراوي إلى قاعة الاجتماع حاملاً أوراقا قدمها إلى الرئيس عبد السلام محمد عارف، اطلع عليها وأبلغهم بان الشيخ قاسم القيسي والمفتي نجم الدين الواعظ والسيد محسن الحكيم قد أفتوا بجواز قتل الشيوعيين (لم يثبت تاريخيا صحة هذه الاوراق) وجرت مناقشات  حادة لتجنب اعدام السجناء، وبجهود كبيرة استطاع أنور عبدالقادر الحديثي ومنذر الونداوي من التوصل الى حل وسط بأبعادهم الى سجن نقرة السلمان.(هاني الفكيكي،اوكار الهزيمة تجربتي مع حزب البعث، 
ص 279  ).
طلب احمد حسن البكر من عبد الغني الراوي الذهاب إلى نقرة السلمان لتنفيذ حكم الإعدام ببعض الضباط والمعتقلين، لكن أنور عبد القادر الحديثي لعب دوراً اساسياً في اقناع البكر بإلغاء احكام الإعدام وعدم تنفيذ الحكم باي ضابط من المسافرين، إذ قال أنور عبد القادر الحديثي، ان لديه اطفال وهؤلاء السجناء لهم اطفال وعوائل، كيف  ينام الليل بعد ارتكاب مذبحة من هذا النوع، فكان لهذا الكلام تأثير في عواطف احمد حسن البكر، وذكره بما سيكون عليه موقفه باعتباره رجلاً مسلماً ولا يرضى استباحة دماء هذه الإعداد من المعتقلين، وبعد ساعات من الجهد وافق احمد حسن البكر على إيقاف حكم الإعدام بحق معتقلي نقرة السلمان.
(علي سعيد، عراق 8 شباط 1963،
ص204).
ادعت الجرائد الموالية للنظام ان للحركة علاقات مشبوهة  مع الدول الشيوعية وخرجت بإخبار تعلن ان التحقيقات كشفت ان للحركة ارتباطا مع احدى الدول الخارجية من دول اوروبا الشرقية وهي بلغاريا التي طرد على اثرها خمسة من موظفي السفارة البلغارية وبضمنهم السكرتير الأول بالسفارة واحد ممثلي ألمانيا الشرقية في بغداد بوصفهم أشخاصا غير مرغوب فيهم.(جريدة الجماهير، العدد 154، 23 
تموز1963).
 
صعود نجم عبد السلام عارف 
لقد استغل عبد السلام عارف قيادته لقمع الحركة ليتحول من واجهة او ديكور وضعه البعثيون على سدة الرئاسة واهملوه الى اللاعب الاساسي في المشهد السياسي ومن ثم صار صاحب النفوذ الاول بعد ان اصاب الهلع بقية المسؤولين
البعثيين.
واصبح الرئيس عبد السلام محمد عارف أكثر قدره من حزب البعث بحكم متانة التحالفات التي اقامها خارج الحزب، فكانت له ارتباطات مع الفئات القومية والمحافظة، فضلاً عن ان القيادات العسكرية لم تكن بعثية ولم يشدها أي ولاء لفكر الحزب، ومنهم من ابناء مدينته مثل سعيد صليبي آمر الانضباط العسكري ومحمد مجيد مدير الخطط العسكرية وعبد الغني الراوي قائد الفرقة الثالثة وعبد الرحمن محمد عارف قائد الفرقة الخامسة وعارف عبد الرزاق قائد القوة الجوية. لذا يمكن القول ان الولاء المناطقي  كان حاضرا في فكر عبدالسلام محمد عارف.
 
اسباب اخفاق الحركة 
لقد فشلت الحركة لأسباب عديدة ابرزها التخبط الذي حدث في معسكر الرشيد مع التأخر والتخاذل من جانب البعض وعدم اذاعة  اي بيان عن الثوار الذين اعتقدوا ان الشعب سيقف الى جانبهم ضد النظام. فضلا عن ان الطائرات المعدة للطيران بقيت جاثمة على الارض، وفي اوكارها لعدم التحاق الطيارين بها. 
واخيرا فان الجيش كان اقوى في القضاء على الثوار في معركة حسمت خلال مدة وجيزة قدرت بست ساعات.(سيار الجميل ، رموز واشباح ).
وبقى ان  اقول، امتاز تاريخ العراق بكثرة الانقلابات العسكرية التي طغت عليها هوس السلطة، غير ان حركة حسن سريع ورفاقه  اقل ما توصف بانها ثورة العرفاء المهمشين الذين ثاروا من اجل تحقيق العدالة الاجتماعية للشعب العراقي، وكانوا شبابا تراوحت اعمارهم بين 16-26 طبعوا بخصال الشجاعة والجرأة والاقدام وترجع جذورهم الاجتماعية  الى الطبقات الاجتماعية  الفقيرة، ولم يتحملوا ما شاهدوه من جرائم البعث الفاشي التي ترتكب بحق العراقيين واقسموا :"بتربة هذا الوطن " على تحريره من "رجس 

 

المجرمين".