من المظاهر التي تضجّ بها حياتنا اليومية، هي الصخب المصحوب بالقلق والتذمر من كلّ ما حولنا، حتى إذا لم نجد ما نوجّه له اللوم انتقلنا إلى أنفسنا بالتقريع والتبكيت العنيف!
مظاهر هذه الحالة منتشرة في مواقفنا ومواقف الناس، تظهر واضحة في وسائل النقل والشوارع والدوائر والمقاهي وتجمّعاتنا في البيوت وخارجها، لا يشذّ عن ذلك إلا لفيفٌ قليل من الناس، وقد تخفُت قليلاً من دون أنْ تختفي تماماً، في مواقع خاصة في المساجد والمزارات وعند الابتلاء بالمرض، ما يتطلب أنْ تكون عودة السكينة هي من أبرز مشاريعنا، لأنفسنا وأسرنا ومجتمعنا ولبلدنا على نحوٍ عام، وذلك لا يكون إلا بملاحظة النقلات الثلاث التي مرّت بنا، ومعالجة تبعاتها السلبية المدمّرة!
بديهي أن السكينة الداخلية التي تعدّ حاجة ماسّة للإنسان العراقي ولمجتمعه، لا تأتي من خلال الأماني أو بإطلاق الشعارات، بل للسكينة مقوّماتها في السياسة والاقتصاد والثقافة وفي التكوين النفسي، كما تكشف التجربة التاريخية لشعوب كانت دموية غليظة صاخبة، ثمّ تحوّلت إلى السلام والسهولة والهدوء، بفعل مجموعة المقوّمات المادّية والمعنوية معاً.
وقضية عودة السكينة إلى الإنسان العراقي ومجتمعه، تحتاج إلى جهود كبيرة يتعاضد عليها الجميع؛ السلطة والإعلام والدين والاقتصاد والخدمات، وكلّ فاعل له مساهمة في التغيير الإنساني والبناء الاجتماعي، لاسيّما حين نأخذ بنظر الاعتبار النقلات الخطيرة التي مرّت بالمجتمع العراقي، خلال ثلاثة عقود ونصف. النقلة الأولى اقترنت بتسلم صدام للسلطة (تموز 1979م) ودامت حتى نهاية حرب الكويت وانطلاق الانتفاضة الشعبية سنة 1991م، حيث كانت «العسكرة» هي عنوان تلك المرحلة، بكلّ ما اقترنت به من رعب وقسوة وبطش وقمع منظم لأيّ صوت معارض. النقلة الثانية اقترنت بالحصار الظالم وانتهت بسقوط النظام في نيسان 2003م، وعنوان هذه المرحلة هي تدمير البنية الإنسانية للشخصية العراقية وتغليب الجانب الغرائزي في المجتمع، على النحو الذي يتحوّل فيه الإنسان إلى كائن لا همّ له سوى الحفاظ على حياته بأيّ أسلوب كان. النقلة الثالثة بدأت مع سقوط النظام ولا تزال مستمرّة، وما صاحب هذه المرحلة من عوامل متضادّة من حرية وإعلام مفتوح، إلى فورة استهلاكيَّة ترافقت مع ارتفاع الدخول، إلى ضغوطات الإرهاب الهمجي، وتدافع المنحى المدني مع المنحى العشائري والقبلي، هكذا إلى بقية العوامل المتضادّة أو الضاغطة أو المتدافعة على أقلّ تقدير.
وبحسب قراءتنا لأوضاع الشعوب في المنطقة والعالم، من النادر أنْ يشهد شعب من الشعوب ثلاث نقلات جذريَّة وشاملة في ما يزيد قليلاً على ثلاثة عقود، ما أدّى إلى تراكم الاضطراب الداخلي وغياب الاستقرار النفسي، ومن ورائه الاستقرار الشخصي على المستوى الإدراكي والسلوكي والعاطفي، كما الاستقرار الاجتماعي.
الأداء السياسي المرتبك، معه الإعلام الصاخب الذي لا يفهم رسالته في حدود بثّ السكينة وإشاعة الطُمأنينة، قدر ما يعرفها بالإثارة البدائيَّة والصراخ ونشر الإشاعات، وممارسة فعل الشماتة أحياناً، كلّ ذلك فاقَم من أزمة الاستقرار في شخصية العراقي وتكوينه الاجتماعي، ما أدّى إلى تعقيد أكبر، من دون أنْ ننسى التنبيه مجدّداً إلى أنَّ مسؤوليَّة السياسي أكبر من مسؤوليَّة الإعلامي على هذا الصعيد، وعلى صعيد أيّ مشكلة أخرى، وللموضوع صلة.