يعرف الزملاء من ابناء جيلي، الذين ما زالوا يقاومون الموت بشجاعة نادرة، انني منذ اللحظة التي اقتربتُ فيها بحياء من عالم الكتابة الصحفية – وان كانت اقرب ما تكون الى الشخابيط – ومن عالم الكتابة في ميدان الادب (خواطر وقصص قصيرة وحكايات) – وان كانت هي الشخابيط بعينها – وكان ذلك على وجه التحديد في النصف الاول من ستينيات القرن الماضي، أقول : الكل يعرف بان هناك خللاً ما في تكوينتي البايولوجية وتركيبتي النفسية، لكوني لا امقت شيئاً مثل مقتي للمحاضرات والندوات والاماسي، بما في ذلك التجمعات التي توفر قدراً كبيراً من المتعة زيادة على الفائدة، كالمرابد الشعرية والمهرجانات البابلية والاحتفالات الغنائية وعروض الازياء النسوية والمعارض التشكيلية، ولعل المرات النادرة في حياتي، والتي يقل عددها عن عدد اصابع اليد الواحدة التي لبيت فيها بعض الدعوات محرجاً، جعلتني اشد نفوراً من تلك الفعاليات، وخاصة الندوات والمجالس والمحاضرات ذات المضامين الفكرية او الاقتصادية او الفلسفية، لانها تتعب رأسي وتشوش فكري، وفي العادة لا استوعبها، واذا حضرت حياء او اجباراً، لا اركز فيما ارى واسمع، بل اتجول بين وجوه النساء (الفاتنات فقط) وامتع بصري واتحرر من حزني الداخلي و.. ومع هذا الانكفاء على الذات، الزمني صديقي علاء الياسري لحضور ندوة بالغة الاهمية – على حد تعبيره – للمفكر الاقتصادي عبد الرضا الاعرجي الملقب بماركس العراق، بعد ان اغراني، أو بالاحرى اغواني، بان اغلب الذين وصلتهم بطاقات الدعوة من الاعرجي، هم من سيدات المجتمع والاكاديميات وربات العمل المشهورات!
الحق كان المحاضر على قدر عظيم من العلم والوضوح والصراحة ما جعلني انشدُّ اليه والى امثلته واستشهاداته وارقامه، حيث ذكر فيما ذكر، ان مجمل ما تم انفاقه على الدورات الانتخابية التي شهدها العراق، يبلغ قرابة (86) مليار دولار، تم صرفها على عدة وجوه، منها اجور مفوضية الانتخابات واجور من انتدبتهم لتنفيذ شتى الاعمال وهم بالآلاف، ومنها تكاليف البطاقات الانتخابية والاستمارات الخاصة بالتصويت والدورات التدريبية والاحبار والصناديق وتكاليف الدعاية و.. و..الخ
وواصل الرجل حديثه قائلاً : إن الرقم (86) مليار دولار ليس مبالغاً فيه كما يمكن ان يتوهم بعضنا، بل هو في الحقيقة اقل من الرقم الحقيقي، ومعلوم للجميع ان مثل هذا المبلغ لو تم استثماره بصورة علمية، فانه قادر على بناء مئات المدارس والمراكز الصحية والملاعب الرياضية الشعبية والشقق السكنية ورفع آلاف الاطنان من الانقاض التي تشوه وجه بغداد .. وحين سأله أحد الحضور (استاذ .. يبدو انك لا تهتم بالديمقراطية ودور الانتخابات) ردّ عليه (انا اعرف شيئاً واحداً وهو وجود دولتين احداهما اميركا، هما اللتان تقرران من سيقود البلاد وليس صناديق الاقتراع) وفيما سألته احدى السيدات عن (الدولة الثانية)، كانت سيدة اعمال شابة قد دخلت القاعة يتقدمها عطرها وجمالها، جعلتني انشغل بها وانسى الانتخابات والديمقراطية بحيث فاتني جواب المحاضر بغض النظر عن كوني أعرفه!!