الحسين (ع)

الصفحة الاخيرة 2019/09/02
...


حسن العاني 
 
لا أعظم ولا أجمل ولا أنفع من مدارسنا الابتدائية، قبل ستين من السنين ويزيد، فقد كان التلامذة يمضون الوقت الاكبر من نهارهم، بين جدران المدرسة مع معلميهم، بعيداً عن ازقة الاحياء الشعبية ولغاويها، ذلك لان هناك دواماً صباحياً يمتد الى اربع حصص ، يتلقى فيه التلامذة دروساً علمية رئيسة كالحساب واللغة العربية واللغة الانكليزية والتاريخ والعلوم والجغرافية.. وبعدها يعودون الى منازلهم لمدة ساعتين طلباً للراحة وتناول الغداء، ثم العودة مجدداً الى «الدوام» بواقع حصتين فقط، وعادة ما تكون حصص ما بعد الظهر (خفيفة) وينتمي اغلبها الى ما يعرف بالانشطة اللاصفية، كالرياضة والنشيد والرسم والحياتية...
كنا بسرعة البرق نتناول غداءنا لكي نعود الى المدرسة، والمدرسة التي اعنيها هنا هي (الكرخ الابتدائية للبنين) وحيث تعلق الامر بي، فأنا أتحدث عن السنة الدراسية 1955/1956 والصف السادس الابتدائي، وما يحثنا على تلك (العجلة) هو لعب كرة القدم في الساحة الترابية الكبيرة المجاورة لبناية المدرسة العتيقة، ولكن ما كان يستهوينا أكثر، هو إداء تمثيليات مرتجلة، ليس فيها معد ولا سيناريست ولا مخرج، بل هي مشاهد عفوية ابنة ساعتها، وكانت سيدة التمثيليات التي نؤديها باستمرار من دون ملل، هي واحدة من معارك التاريخ العظمى التي استشهد فيها الامام الحسين(ع)، وهو يواجه ذلك الانحراف الحاد في مسار الرسالة الاسلامية..
كان الامام في رؤيتنا العذرية – وهو كذلك حقاً – انساناً اممياً تمثلته الشعوب جميعاً، بأديانها ومذاهبها وقومياتها ورؤاها، من أقصى اليسار الى اقصى اليمين، ولم تكن مفارقة في ذلك العهد الذهبي قبل أكثر من ستين سنة، أن يؤدي تلميذ سني اسمه حسن العاني دور الحسين(ع)، وسني آخر اسمه صباح الدوري، دور العباس(ع)، ولا ثالث لهما في مشهدنا التمثيلي، في حين كان فريق يزيد يضم قرابة عشرين تلميذاً، هم خليط من الشيعة والسنة.. ولم تكن سيوفنا غير مساطر خشبية، اما خيولنا فأغصان اشجار منزوعة الاوراق!
ذات ظهيرة، احتدم القتال بين (المعسكرين) بصورة عنيفة، وما حيلة اثنين مقابل عشرين (خلتْ قلوبهم من الايمان والرحمة!)، وهكذا عدت الى البيت، وكما هو متوقع، بملابس ممزقة، وخدوش وكدمات، وجروح يسيرة هنا وهناك، ولم يكن أخي العباس احسن حالاً (لولا وصول المدير عزة الخوجة رحمه الله مصادفة الى المكان، لحدث
 ما هو أسوأ)!
لا غرابة بالطبع لو جنّ جنون والدتي، وهي شيعية ميسانية، وأنا اروي ما حدث منتشياً ببطولتي غير آبه بما آلت اليه ملابسي وأحوالي، وكان أبي، سنياً من أعالي  الفرات، غارقاً في الضحك، وتغلبت عاطفة الامومة على المشهد، وهددتني وجسدها يرتجف ذعراً على الابن الوحيد الذي خرجت به من الدنيا، بأنها (ستذبحني) لو قمتُ بهذا الدور ثانية، وطلبت مني أن أكون من أتباع يزيد، لأن قمصانهم لا تتمزق، ولا يتعرضون الى الضرب والاذى، ما دامت العملية هي مجرد تمثيل!
فجأة توقف أبي عن الضحك، وعلا الغضب وجهه وخاطب أمي والشرر يتطاير من عينيه (أسمعي يا خديجة.. لو عاد ابني الى البيت وهو ينزف دماً، أشرف لي من ان يكون قاتل سبط النبي، حتى لو كان ذلك تمثيلاً، حذارِ أن تعلمي الولد على النذالة)، لم أفهم غضب أبي، ولم استوعب كلماته المبهمة على طفولتي، إلا بعد اشتعال العمر شيباً، حيث أدركتُ معنى ان يكون الانسان قريباً من الحسين(ع)...