الاقتصاد السياسي للاتفاق الصيني – العراقي
اقتصادية
2020/01/20
+A
-A
د. ميثم العيبي
في رواية (جريمة على الهامش) يعلن بطلها هنري سبيرمان؛ الاستاذ الجامعي، ورئيس الجمعية الاقتصادية الاميركية، انه: "لا يوجد شيء اسمه العشاء المجاني"، فالصين تعمل اليوم ضمن ستراتيجية بعيدة المدى لادارة اقتصادها وتجارتها الدولية، من خلال ما عرف بمبادرة الحزام والطريق، الموقعة من قبل مجموعة من الدول تمثل اكثر من 65 بالمئة من سكان العالم.
وهذا الطريق يمر ببلاد الرافدين، كقلب شرق أوسطي، ستحرث من خلاله طريقا معبدا، لعبورها الى افريقيا واوروبا من أجل توسيع هيمنتها ونفوذها الاقتصادي العالمي، مستثمرة النفط العراقي الذي يحتفظ البلد فيه باحتياطيات هائلة كوقود لقاطرة تعبيد هذا الطريق، لذا فان تنفيذ مشاريع البنى التحتية والطرق والجسور والسكك والمدارس والطاقة هي في الاساس تخدم تعبيد طريق الحرير الصيني بأموال
عراقية.
الصين الطامعة لتقاسم النفوذ على النفط والغاز العراقي بشكل أوسع مع الولايات المتحدة الاميركية، ترغب في ضخ المزيد من الاستثمارات ورؤوس الاموال وتوظيف للايدي العاملة الصينية، فضلا عن رغبتها في زيادة حجم التبادل التجاري مع العراق، وهو ميزان سيبقى لصالح الصين وليس العراق لجهة ان الاخير مستورد صاف من السلع الصينية، الرخيصة
والسيئة.
ان تزايد النفوذ الصيني لا يقتصر على العراق، بل أنَّ جل دول الخليج العربي؛ التي تعد حليفا تقليديا لاميركا، تنحو هذا المنحى نفسه، إذ ارتفعت فيها الاستثمارات الصينية بشكل أكبر، كما تزايدت صادراتها الى الصين مقارنة بنظيرتها الى
أميركا.
لكن ما يميز دول الخليج في سياستها الاقتصادية عن العراق، انها تحتفظ بعلاقات متوازنة بين اميركا والصين، وتبعث تطمينات دائمة انها تسعى الى بناء اقتصاداتها، ولا تطالب بخروج القوات والقواعد الاميركية المتواجدة على
اراضيها.
ان قوة الاقتصاد الصيني، الذي يمثل خمس سكان العالم، وخمس تجارة العالم الخارجية، يؤهلها ان تطرح نفسها كبديل للعولمة بالمفهوم الاميركي، وهكذا فان الصين، بعد فشل المشروع الاقتصادي الاميركي في العراق، على مدى اكثر من 16 عاما، تحاول ان تملأ هذا الفراغ الاقتصادي (والسياسي والامني لاحقا)، وهو امر تعمل عليه الصين بهدوء ستراتيجي منذ أمد طويل... في ما يعرف بـ(الحلم الصيني)، مقابل عدم تنفيذ (الحلم الاميركي) في العراق، وتبعا لذلك فانه من المفترض! ان تتحول بوصلة النظام الاقتصادي في العراق من العولمة الغربية، الى الصيننة Chinazation الشرقية.
ورغم انه من المستبعد ان تتقبل أميركا فكرة فك ارتباط العراق عن عباءة نفوذها الاقتصادي بسهولة، فانه من الواضح ان الصين مستعدة ومتهيئة لملء هذا الفراغ، وهو خطأ ستراتيجي يجب ألا يقع العراق فيه.
ورغم ان الصين تتجنب في وثائقها الرسمية الحديث عن اي نوايا مستقبلية لتوسعات سياسية
وامنية.
فان الواضح ان اميركا تنظر بعين الريبة لمثل هذه النوايا، فالوجود السياسي والعسكري الصيني المستقبلي (اللين)، هو الطريق الوحيد لحماية مصالحها الاقتصادية والتجارية، وذلك ضمن ترتيبات توفير السلع الصينية للعالم ضمن اطار دولي متعدد الاطراف.
كما ان تزامن الاتفاقية الصينية العراقية التي عرفت بـ (النفط مقابل الاعمار) تحت يافطة البنية التحتية والاستثمار، مع دعوات اطراف عراقية برلمانية لخروج القوات الاميركية من العراق، يثير الشكوك حول ملء هذا الفراغ السياسي والامني مستقبلا من قبل الصين، وحلفائها.
وهو أمر مستغرب، أن تقوم الصين في هذه المرحلة بدخول العراق والشرق الاوسط من بوابة الاقتصاد، ولا تجرؤ على المجاهرة ومواجهة أميركا سياسياً وامنياً، على حين يجاهر العراق بابتعاده أمنياً وعسكرياً عن المحور الاميركي الذي يزعم انه قام بتحريره من نير أعتى دكتاتورية شرق أوسطية وأنفق داخل أراضيه مليارات الدولارات.
إن أكثر ما هو محبط في هذا الوضع أن يتم نقل القرار الاقتصادي والسياسي والامني للعراق من أقصى الغرب الى أقصى الشرق، بهذه الحدة، من دون تحول سلس، ومن دون ايجاد توازنات دولية وداخلية تضع مصلحة البلاد ومكوناته المختلفة في المقدمة، وهو أمر يرجح استمرار الكابوس العراق، وذلك وسط استمرار التصارع، بين الحلمين الصيني
والامريكي.
"صيننة" العراق؛ كبديل عن عولمته أو أمركته (التي لم تحقق أي نجاح أو جدية لتحويل العراق الى بلد تنموي كما كانت تعد، وذلك على مدى السنوات من 2003 الى 2020)، ستستخدم ذات الاساليب التي تربط بها العولمة الدول ضمن
آلياتها.
ومن بين هذا الاليات هي سياسات الاقراض، التي طالما كان السؤال الجوهري فيها: هل يحتاج العراق الى الدخول في ترتيبات اقراضية، وهل كان عليه ان يرفضها، كما كان يتم التشكيك بتلك السياسات التي تم ربط العراق بالمنظمات الدولية كصندوق النقد والبنك الدولي من خلالها!
وهو التساؤل نفسه الذي يتجدد في اللحظة الراهنة: هل ان العراق يحتاج للدخول في ترتيبات اقراضية من الصين، في حين انه يمتلك احتياطيات اجنبية مريحة واحتياطايات نفطية هائلة، يمكن ان تكون ضمانة لاقتصاده، بدلا من مقايضة اعماره
بالقروض؟
فرغم كل التطمينات التي تشير الى ان القروض التي تقدمها الصين هي ليست قروضا، وانما مجرد تسهيلات او تمويل سلس كبديل عن الاليات التمويلية التقليدية التي تتسم بالروتين، وان الشركات الصينية هي التي ستقوم بالتنفيذ، وهو ما يختلف عن القروض السابقة التي كانت تمول عجز موازناتي يذهب الى ايدي عراقية تترجم الى فساد ومشاريع وهمية وسيئة التنفيذ.
الا ان الواقع يشير الى ان الصين تعمل على انشاء مجموعة من المؤسسات الاقراضية الكبرى، كبنك الاستثمار الآسيوي للبنى
التحتية.
وصندوق طريق الحرير... وهي مؤسسات تمارس نشاطات اقراضية واسعة تصل لمليارات الدولارات لتمويل دول ومشاريع ومؤسسات في تلك الدول التي تشق من خلالها طريق الحرير، وذلك وفق اسعار فائدة سوقية عالمية او متساهلة، وليست مجانية. وواضح ان هذه المؤسسات تحاول ان تأخذ دورا مستقبليا مماثلاً وبديلاً عن الدور الذي تلعبه مؤسسات الاقراض الدولية كصندوق النقد الدولي والبنك
الدولي.
ان الخطورة لا تكمن في توقيع اتفاقية اقتصادية مع الصين، بشروط منصفة، فالبلد من دون شك بحاجة لاعادة انعاش بنيته التحتية المندثرة، وهو أمر يمكن ان تقوم الصين بتوفيره بسهولة، لجهة اعتبار العراق قرية صينية صغيرة، يمكن بناؤها بسهولة بما تمتلكه من امكانات اقتصادية هائلة ومرونة عالية في النفاذ للاسواق
والانجاز.
لكن هذه الخطوة كان لا بد من ان تأتي مع منح الطرف الاميركي، ما طلبه قبل توقيع هذه الاتفاقية، من ضمانات كافية، كفيلة باستمرار نفوذه السياسي والامني في العراق والمنطقة... وهو أمر لم يتحقق، بدلالة المطالبات البرلمانية بخروج القواعد الاميركية، ما يرجح عرقلة هذا الاتفاق والحيلولة دون
تنفيذه.