ونحن إزاء أزمة ماليَّة ناجمة عن انخفاض أسعار النفط، وإزاء معالجات تستهدف ضغط الإنفاق الحكومي، واقتصاد يعاني من اختلالات هيكليَّة تحد من حركة السوق في ظل الاعتماد على الاستيراد في تمويل الطلب المحلي، وأقاويل تتحدث عن نية خفض رواتب الموظفين- التي تعد وبامتياز الممول الأول للعرض النقدي، بعد انخفاض معدلات الموازنات الاستثمارية على مدار سنوات- بجانب ما خلفته تداعيات جائحة كورونا من تعطيل للنشاطات الاقتصادية المتاحة والتي انسحبت وصولاً الى نشاطات اقتصاد الظل.
بات مشهد الاقتصاد الكلي مرشحاً لمزيدٍ من الانكماش في ظل هذه المعطيات الضاغطة، ما يعني وبالضرورة انخفاض معدلات الاستهلاك على حساب المعروض السلعي الذي يغرق الأسواق، الأمر الذي يرشّح انخفاض معدلات التضخم في حدود العرض والطلب الكليين، قبل كل شيء.
وهنا يمكن أنْ ترشح فرصتان على المستوى النقدي كان يطالب بهما العديد من المتحمسين لتحرير سعر الصرف بدعوى الخوف من استنزاف احتياطيات البنك المركزي في مزاد العملة، والحد مما يقال بشأن شبهات فساد في عمليات تدفق الكتلة النقدية الى خارج البلاد: الأولى تتعلق بانخفاض الطلب على شراء الدولار جراء انخفاض معدلات التدفق النقدي لتمويل التجارة الخارجيَّة، بالتزامن مع انخفاض دخل الطبقة الوسطى الذي سيسهمُ في الحد من تذبذب أسعار الصرف، وبالتالي إمكانيَّة ثبات سعر الصرف أو تذبذبه في معدلات مقبولة في بادئ الأمر، عند اتباع أسلوب "التعويم المدار" الذي يقتضي تدخل المركزي تبعاً للعرض والطلب في السوق الموازية، بالتزامن مع ضغط النفقات الحكوميَّة.
وكثيراً ما كان مطلب إعادة النظر بمزاد بيع العملة أو إيقافه نهائياً يتكرر على ألسنة الساسة والمراقبين، حتى بات من ضمن الخطوات الإصلاحية التي دار الحديث عن نية تطبيقها في المرحلة الحالية، وتبدو الآن الفرصة مؤاتية إذا ما صدقت التسريبات التي تتحدث عن ضغط الإنفاق الحكومي في الموازنة النصف سنوية المزمع تقديمها خلال الأيام المقبلة.
والفرصة الثانية التي يمكن أنْ ترشح عن هذا الانكماش تتعلق بإمكانية رفع نسبة الفائدة، بهدف سحب الكتلة النقدية المكتنزة التي يقدرها البنك المركزي بنحو 70 بالمئة من النقد الصادر، وهنا قد يقول قائل إنَّ هذه الخطوة ستسهمُ في تكريس الانكماش والحد من فرص إعادة الحياة لحركة السوق، إلا أنَّ هذا الإجراء في ظل عوامل الانكماش الضاغطة، يمكن أنْ يعيد توزيع الكتلة النقديَّة الصادرة عن البنك المركزي بين ساحة التداول المصرفي والأسواق المحلية بالتزامن مع إدخال التقانات والنظم المصرفيَّة الحديثة التي تختزل حلقات الترهل وتشجع الجمهور على التداول الالكتروني باتجاه التقليل من التداول النقدي في إطار تطبيق جاد لبرنامج الشمول المالي، الأمر الذي يعني وبالضرورة، خروج السياسة النقديَّة من مأزق الاكتناز الذي عانت منه على مدار سنوات والتحرر من عبء تمويل التجارة الخارجيَّة الذي يعده الليبراليون مسؤوليَّة الطلب الكلي في السوق المحليَّة.