تقاعد جاغو

منصة 2021/09/13
...

 نهى الصراف
 
في مدينتنا، أسعار الكلاب غالية جداً تتجاوز المئات من الأوراق النقدية، مئات كثيرة حتى أكثر من أصابع اليدين والقدمين.. الكلاب مخلصة، وفية ومسلَية أيضاً، كما أنها تحمي البيوت من السرقات وزيارات اللصوص الليلية التي تنتهي في الغالب بمأساة، لهذه الأسباب وغيرها يدفع الناس نقودهم لامتلاكها، ثم بمرور الوقت تمتلكهم الكلاب؛ زيارات متكررة للبيطري، طعام خاص لتخفيف الوزن، ألعاب لقتل أوقات فراغها الطويلة في النهار، ساعة نهارية وأخرى مسائية لمرافقتها في المشي والترويح عنها، ودورات نفسية موسمية لعلاج نفورها من الغرباء ورهبتها من كلاب الحي الأخرى، بسبب تجارب نفسية مؤلمة قد تكون واجهتها في طفولتها، من يدري!
استيقظت هذا الصباح مبكرة كالعادة، يدفعني خاطر بأني سأصادف ما يعكر مزاجي، ولأنَّ الوقت كان مبكراً جداً لاستئناف أعمال المنزل المتأخرة، كان هناك ما هو متاح من الكسل مع فنجان الشاي بالهيل والنعناع، ثم، يليه، تصفح عشوائي لمواقع ملاجئ محلية على الانترنت خاصة بتبني الكلاب التي تعرضت لحوادث سير أو اعتداءات (نادرة)، أو تلك التي تخلى عنها أصحابها بسبب المرض أو الموت.. وعلى حد علمي، فإنَّ ما اجتمع على المحبة لا يفرقه إلا الموت. ألحتْ عليَّ صديقتي لأبحث لطفلتها عن عروضٍ مناسبة؛ كلب لطيف هدية مناسبة لعيد ميلاد الطفلة اللطيفة.
عندما تصفحت صور الكلاب المعروضة للتبني في موقع ملجأ «الأقدام السعيدة»، لفت انتباهي صورة كلب رقيق الملامح باللونين الأبيض والأسود بحجم مناسب مع لطخات بنية على جانب رقبته، تبدو عليه الوداعة والخجل، هكذا أشارت الكلمات المدونة إلى جانب الصورة، كلمات افتراضيَّة على لسان الكلب، كانت تقول: «اسمي جاغو، عمري 15 عاماً، أنا ودود وأحب الناس، أبحث عن منزل مناسب لتقاعدي» !
يواصل صاحب التدوينة، على لسان الكلب: «يفضل أنْ يكون منزلاً هادئاً، بدون أطفال أو كلاب وقطط أو حيوانات أخرى، ويا حبذا لو حصلت على نافذة في غرفة المعيشة تطل على حديقة بيتيَّة جميلة، فانا أحب استكشاف المساحات الخضراء ويبهجني صوت الطبيعة.. على أنَّ خطواتي ليست بالسرعة التي تظنون، فأنا متعب قليلاً وأحب النوم كثيراً وأطلب دائماً أنْ تتم تغطيتي بدثار مناسب، بدون أي أصوات إزعاج أو ضوضاء خاصة الضوضاء التي يحدثها الأطفال، من المفيد أنْ تعلموا بأنني لا أحب السلالم ولا أرغب في مغادرة المنزل إلا نادراً. أنا في سن التقاعد كما ترون ولست في حاجة للشرح أكثر».
تظهر جملة مختصرة في ذيل الإعلان تقول:
«من يرغب في الحصول على كلب أليف بهذه المواصفات؟». ثم إضافة أخرى بسيطة جداً:
«للاستفسار؛ رقم الهاتف والعنوان أسفل الصفحة، السعر يبدأ من 855 جنيهاً استرلينياً!».
أغلقت شاشة الكمبيرتر بسرعة بعد أنْ تعكر مزاجي، ثم شعرت ببعض الخجل، القليل جداً منه، بعد أنْ تذكرت ما قاله أنطوان تشيخوف في إحدى قصصه الخالدة: «إن ذلك شائن ومحزن.. لكنه حقيقي؛ هناك أناس كثيرون يحسدون الكلاب»!
أظنها كانت قصة «السيدة صاحبة الكلب»، وربما لا، لأنَّ الكلب في القصة كان أبيض اللون صغير السن وهو لا يشبه صاحبنا جاغو الذي بلغ سن التقاعد. الأقرب إلى المنطق أنَّ تشيخوف لم يقل ذلك، بل هو ذلك الظل المخيف الذي خيم فوق رأسي المتعب ذاك الصباح، الصباح الذي كنت أبحث فيه عن كلبٍ للتبني.