د.حامد رحيم
إنَّ خصوصية الوضع الاقتصادي في العراق وما يحويه من اختلال هيكلي، يجعل مسارات السياسات الكلية وتأثيرها في التوازنات تبدو غير منطقية اقتصادياً، ولا تتلاقى في الأعم الأغلب مع مسارات النظرية الاقتصادية، وفي هذا الصدد نشر موقع قناة العربية الإخباري تصريحاً منسوبا لمستشار الدولة الاقتصادي أ.د مظهر محمد صالح تضمن إشارة إلى تداعيات التضخم ودور السياسة المالية في تحجيمه، وأكد أن هناك دورا مستقبليا للسياسة النقدية للدفاع عن القدرة الشرائية للدينار عبر “سياسة نقدية متشددة”.
وأود هنا الوقوف عند هذه الإشارة المهمة للمستشار وأحلل فحوى هذه السياسية ومدى واقعية تطبيقها في ظل الظروف الاقتصادية الحالية. إن البنوك المركزية لها ذراعان للتأثير في الكتلة النقدية والتأثير في الطلب الكلي وتطويعهما لصالح الاستقرار السعري وهما (عرض النقد وسعر الفائدة)، وفي ظل مبدأ الاستقلالية فإن البنوك المركزية لديها ثلاث أدوات للتحكم بذراعيها وهي ( المثبت الاسمي للسياسة والاحتياطي القانوني المفروض على المصارف وعمليات السوق المفتوحة لترويج السندات الحكومية)، لغرض التأثير في كلف الاستثمار، باعتبار الاستثمار دالة في سعر الفائدة ومناسيب السيولة النقدية للتأثير في الطلب الاستهلاكي، ناهيك عن التأثير في مسارات السياسات الائتمانية للمصارف، ومن ثم فإن الإشارات الملتقطة عن النشاط الاقتصادي من قبل البنوك المركزية تحدد مسارات الأدوات غير المباشرة، فإن كانت انكماشية تذهب البنوك إلى خفض قيمة المثبت الاسمي مع شراء للسندات الحكومي، لغرض تسيلها وحفز المصارف على التوسعة الائتمانية عبر خفض نسبة الاحتياطي القانوني، وهذه تسمى سياسة نقدية (توسعية)، وعكسها تماما هي (المتشددة) التي تستخدم عند إشارات التضخم، حيث يرتفع سعر السياسة وتطرح سندات للبيع لسحب السيولة، كذلك ترفع قيمة الاحتياطي القانوني لتقويض قدرة المصارف على منح القروض، وتخضع العمليات الى موازنات وحجوم تفرضها التوقعات التضخمية او الانكماشية، فتختلف مستويات الشدة والتوسعة تبعا لحجم التوقعات.
إنَّ الوضع في العراق افتقر إلى الأرضية القابلة لتطبيق كل ما تقدم بسبب الاختلالات الهيكلية، ومن ثم فان السياسية النقدية صارت في وضع (دفاعي) وفقدت القدرة على المبادرة تجاه التوقعات، بمعنى أن الانفاق الحكومي صار هو المتغير (الموضح والمفسر) بشكل أساس لتغيرات حجم الكتلة النقدية وما دور السياسية النقدية الا دور (تعقيمي) لأثر الانفاق الحكومي عبر اتخاذ سعر الصرف مثبتا اسميا، وما دفاعها عن قيمته عبر ما تضخه من دولار من النافذة وسحب الدينار من الشارع الا آلية للتعقيم، ومن ثم السيطرة على المعدل العام للأسعار كون السوق مرتهنا إلى حدٍ كبير بالاستيرادات.
والدليل أن موجة الارتفاع السعرية الأخيرة كان للسياسية المالية الدور الاكبر في مواجهتها، عبر القرارات المتخذة من فتح الاستيرادات والاعفاءات الجمركية ودعم البطاقة التموينية وغيرها مع بقاء السياسية النقدية بوضع المتفرج، فهي تملك سعر الصرف اداة، وهو غير قابل للتقلبات في الأجل القصير لأسباب تتعلق بمكانة العملة وتدفقات الموازنة وغيرها، ناهيك عن أن مواجهة التضخم يعني رفع قيمة الدينار من جديد، والسؤال هنا كيف ستعمل السياسة المتشددة والطلب الاستثماري في ادنى مستويات والمصارف (أغلبها) تتربح من طوابير نافذة العملة، ومن دون سياسة ائتمانية واضحة، ناهيك عن عدم فاعلية سوق السندات وهي العوامل التي حولت السياسية النقدية نحو سعر
الصرف.