توخير مزرويف
بينما تنشغل الكتل السياسية بتشكيل الحكومة في الأسابيع المقبلة، سيكون من المهم كذلك الاتفاق على الأهداف الاقتصادية التي ستسعى الحكومة لتحقيقها، إذ إنه من المرجّح أن تحدّد هذه الأهداف المستقبل الاقتصادي للبلاد. يُعاني العراق من تحديات اقتصادية متعددة ومعروفة للجميع، ففي كل عام، يُولَد آلاف الأطفال العراقيين في ظروف اجتماعية - اقتصادية صعبة، إذ يعيش أكثر من خمس السكان في حالة من الفقر في غياب مصدر موثوق ومستدام للكهرباء ومياه الشرب وغيرها من الخدمات الأساسية، كما يواجه خريجو الجامعات شح الفرص الاقتصادية مما يدفعهم للخروج الى الشوارع مطالبين بالتغيير.
تُعزى العديد من هذه التحديات إلى سنوات من الصراع وانعدام الأمن، إلّا أن السياسات الاقتصادية قد لعبت دوراً مهماً أيضاً في ذلك، فقد حال ضعف الحوكمة من دون القدرة على الاستخدام الفعّال والكفوء للموارد العامة، وفي ذات الوقت، استخدم الجزء الأكبر من موارد النفط للحفاظ على عقد اجتماعي يرتكز على خلق وظائف في القطاع العام وتوفير الدعم عوضاً عن بناء اقتصاد سوق مدعوم بنظام مالي قوي، ومن ثم، أعاقت هيمنة الدولة على الاقتصاد من نمو القطاع الخاص. إنَّ الدرس الرئيس من تاريخ العراق القريب هو غير استدامة تلك السياسات وعدم قدرتها على خلق فرص عمل كافية لما يقارب ثمانمئة ألف شاب يدخلون إلى سوق العمل كل عام، ففاتورتا الأجور ومعاشات التقاعُد الحكومية تستهلكان بالفعل شقا كبيرا من عائدات النفط العراقي، غير تاركة سوى القليل لمجابهة باقي الأولويات الملحّة، وهو ما يجعل المالية العامة عرضة لمخاطر تذبذب أسعار النفط؛ لذا فليس من المُستَغرب أن يجد العراق نفسه على شفا انهيار اقتصادي بعد كل هبوط حاد في أسعار النفط العالمية، وفي كل مرة يتعرض العراق لمثل هكذا صدمات تنطلق محاولات الإصلاح اقتصادي، إلا أنه سريعاً ما يتم التخلي عنها فور تحسّن الأوضاع في سوق النفط.وقد تجلت أوجه القصور في هذا الأنموذج الاقتصادي مرة أخرى خلال العامين الماضيين في ظل تداعيات جائحة كوفيد- 19، والانخفاض الحاد في أسعار النفط، اللذين بدورهما ألحقا ضرراً كبيراً بالاقتصاد العراقي، إذ واجهت الحكومة صعوبة في تسديد الالتزامات المترتبة عليها وأصبح الدين العام غير مُستدام، وأخذت احتياطيات النقد الأجنبي للبنك المركزي تتلاشى بشكل سريع، وقد حدّت هذه الضغوط من قدرة الحكومة على الاستجابة بشكل فعّال للأزمة الصحية عندما كانت هناك أمس الحاجة الى ذلك.
وفي ظل هذا الظرف الصعب، قدمت الحكومة رؤية طويلة المدى لإعادة هيكلية الاقتصاد العراقي تهدف إلى الابتعاد عن الأنموذج الحالي الذي يعتمد بشكل رئيس على الدولة والنفط، نحو أنموذج يقوم على خلق الوظائف في القطاع الخاص وتحقق الاستقلال والتنوع الاقتصادي، ويوفر الارتفاع الحالي في أسعار النفط الموارد والحيز الكافي من السياسات للبدء بتحويل هذه الرؤية طويلة المدى الى حقيقة، فهل سيستغل العراق هذه الفرصة، أم سيعود إلى مُمارساته القديمة؟. يُعَدّ هذا السؤال محورياً ومهماً اليوم أكثر من أي وقت مضى؛ ففي الوقت الذي يكافح فيه العالم التغيّر المناخي قد تكون كل فرصة متاحة كهذه هي الأخيرة أيضاً، ففي ظل السباق العالمي المُحتدم لإنقاذ الكوكب وما ينطوي عليه من حالة عدم اليقين حول استمرارية الاعتماد على النفط فإنّ العراق يدخل بذلك معركة وجودية من أجل مستقبله الاقتصادي، وفي الوقت نفسه، يهدد ارتفاع درجات الحرارة وتكرار وشدة موجات الحرّ والجفاف والكوارث الطبيعية الأخرى، كذلك تزايد الملوحة والتصحّر، بتدمير سبل عيش الملايين وجعل أجزاء رئيسة من البلاد غير صالحة للعيش. علاوة على ذلك، ستزيد الاتجاهات الديموغرافية الحالية من الضغوط على أنظمة المياه والصرف الصحي والكهرباء في المناطق الحضرية التي تعاني بالفعل. ومن دون تفعيل إصلاحات عاجلة تقوم على تعزيز الصمود أمام تحديات التغيّر المناخي والتنويع الاقتصادي، يُمكن أن تختفي العديد من قطاعات الاقتصاد إلى الأبد.وفي إثر ذلك، يتطلب مواجهة تحديات العراق الحالية والمقبلة تنفيذ إصلاحات غير مسبوقة وواسعة النطاق، وعلى رأسها تعزيز الحوكمة وتقوية المالية العامة لضمان استدامتها، وخلق مساحة للاستثمارات ذات الأولوية القصوى، وتعزيز شبكات الأمان الاجتماعي، فضلا عن إصلاح الخدمة المدنية وقطاع الكهرباء وتنشيط القطاع المالي لدعم الاستثمار الخاص.
ولا يُمكِن لتلك الإصلاحات أن تتحقق إلّا بدعم سياسي واسع النطاق، الأمر الذي كان صعب المنال بالماضي.
قدّمت أسواق النفط العالمية للعراق فرصة أخرى لتأمين مستقبلٍ أكثر إشراقاً لمواطنيه، وقد يمتد صدى استجابة الحكومة الجديدة لتلك الفرصة - قبل ان تختفي تلك الفرص إلى الأبد - إلى أجيال مقبلة. هنا تكمن أهميتها التاريخية.
* رئيس بعثة العراق في صندوق النقد الدولي