9 نيسان تنظيرٌ جديدٌ في علم النفس والاجتماع السياسي

منصة 2023/04/10
...

  * أ.د. قاسم حسين صالح

يعمد علماء النفس إلى إجراء التجارب في المختبرات على الفئران، الكلاب، القردة، الطيور.. لمعرفة كيف تتصرف حين تتعرض الى موقف مؤلم، ضاغط، قاس.. ليستفيدوا من نتيجة التجربة فيما لو تعرض الإنسان الى موقف مماثل. ويجرون أحيانا تجربة على إنسان أو مجموعة أفراد (ضمن حدود الاخلاق) ليعرفوا مثلا مدى قدرتهم على تحمل ضغط معين أو صدمة كهربائية.

والذي حصل في (9 نيسان 2003) وما بعده، أن العراق صار بكامل أرضه مختبراً لتجارب ميدانية فريدة من نوعها على 27 مليون من البشر نجم عنها تنظير يشكل اضافة عراقية في ميدان علم النفس والاجتماع السياسي، نقدمه لعلم النفس والاجتماع العربي والعالمي.


*

بقيام قوات التحالف بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية بغزو العراق في نيسان 2003، وما نجم عن هذه الحرب التي اكملت سنتها العشرين، يقدم لنا دروسا في مجالات العلوم والمعرفة المختلفة: السياسية، الاجتماعية، النفسية، التاريخية، الاقتصادية، الدينية، الثقافية، والاخلاقية، على صعيد الفرد بوصفه إنسانا، والجماعات، والمجتمع، والسلطة.. والعلاقات التي تحكم هذه الأطراف، وكيف تنشأ الصراعات وإلى ماذا تفضي، والعنف والضغوط النفسية وقوة تحمّل الشخصية وما نحو ذلك من أمور من قبيل ما يحصل للقيم والنسيج الاجتماعي من تخلخل أو انهيار كالذي حصل لقيمة الحياة المقدسة في المجتمع العراقي.

 غير أننا سنركز هنا على دراسة ما يحصل للطبيعة البشرية والمجتمع، ليس فقط في ظروف حرب شاملة بأسلحة تدميرية هائلة لا يوجد في مفردات قاموسها "احترام قيمة الحياة"، إنما أيضا ما ينجم عنها من ضحايا وهجرة وتهجير وفقر وبطالة وتفكك اسري وتعصب بأنواعه وصراعات على المصالح والهويات، وعنف وقتل في مشاهد لا يستوعبها عقل ولا يهضمها منطق. ومهمتي هنا ليست وصف ما جرى، ولا تقديم موعظة أو ارشاد.. بل الكشف عن القوانين الاجتماعية التي تحكمت في تحولات ما حصل.


دروس 9 نيسان.. تنظير وقوانين اجتماعية

كان أول درس سيكولوجي-اجتماعي قدمه العراق للبشرية ميدانيا (مختبريا) نصوغه بما يشبه النظرية:

"اذا انهارت الدولة وتعطّل القانون وصارت الحياة فوضى.. شاع الخوف بين الناس وتفرقوا الى مجاميع أو أفراد تتحكم بسلوكهم الحاجة إلى البقاء. 

فيلجؤون الى مصدر قوة أو جماعة تحميهم، ويحصل بينهما ما يشبه العقد، يقوم على مبدأ الحماية المتبادلة".

ويعلمنا هذا الحدث أن خيمة الدولة اذا سقطت ولا توجد خيمة اخرى تجمع أهل الوطن، فإن الناس يصابون بالذعر مدفوعين بـ "الحاجة الى البقاء" فيتفرّقون بين من يلجأ الى عشيرة، مرجعية دينية، تجمع مديني أو سكني، تشكيلات سياسية أو كتل بأية صفة كانت.

وتعلمنا هذه الواقعة ان حدثا كهذا ينجم عنه تحولات حتمية تخضع لقوانين سيكوسوسيولجية. فالحاجة الى البقاء، نجم عنها ثقافة جديدة هي "ثقافة الاحتماء"، دفعت المواطن العراقي الى أن يلجأ الى جهة تحميه.. وفق شروطها!. وثقافة الاحتماء نجم عنها تحوّل سيكولوجي خطير، هو ان الشعور بالانتماء للعراق، للوطن.... تعطّل! بعد ان تحول انتماء العراقي الى المصدر او القوة التي تحميه.. وبولاءات لا تحصى. 

كان هذا هو التحوّل السيكولوجي -الاجتماعي الأول الذي حصل للعراقيين بعيد مزاج الفرح الذي شاع بين معظمهم بالخلاص من الدكتاتورية. 

فلقد كان شيئا أشبه بالخيال ان يستيقظ العراقيون صباح التاسع من نيسان وقد وجدوا أنفسهم أنّهم تخلّصوا من كابوس رهيب جثم على صدورهم أكثر من ربع قرن. 

والكل يتذكر ذلك الرجل الذي مسك صورة صدام صباح ذلك اليوم وهو يضربها (بالنعال) ويخاطب العالم بانفعال: ياناس ياعالم هذا مجرم دمّر العراق وقتل العراقيين.. وأوصل رسالة عفوية – للعرب بشكل خاص – أنّهم لم يفهموا بشاعة ما جرى للعراقيين على يديه.  

والدرس البليغ هنا هو أن الدكتاتور أو الطاغية أو الحاكم الذي يكرهه شعبه، اذا أطيح به من قبل قوة خارجية ولم يطح به أهله، فإن الناس يفتقدون "البطل" الوطني الذي تطمئن اليه قلوبهم ويمنحهم الشعور بالأمان، فيما يتملكهم الشعور بالخوف وتزايد القلق بعد صحوتهم من فرحة الخلاص من جلّادهم التي جادت بها عليهم القوة الأجنبيَّة، فيتفرّقون ويصيرون أمام واقع نفسي جديد، نصوغه بقانون اجتماعي، هو: 

(إنَّ الولاءات المتعددة في المجتمع الواحد، 

الذي ينهار فيه انتماؤه الذي يوحّده طوعاً أو قسراً  يؤدي الى أن تتصارع جماعاتها فيما بينها على السلطة، حين لم يعد هناك دولة أو نظام).

وكان أقوى هذه الولاءات وأخطرها هو الولاء للطائفة والقومية. فالشيعة والكرد كانوا مدفوعين (بسيكولوجيا المظلوميَّة)، فيما أراد السنّة استعادة الدولة التي كانت بيدهم، مدفوعين (بسيكولوجيا الضحية). ليتحقق قانون اجتماعي سياسي هو الصراع بين (المظلومية والضحية)، كانت حصيلته عشرات الآف الضحايا الأبرياء.. بينهم من قتل لسبب بمنتهى السخافة.. لأن اسمه (حيدر أو عمر أو رزكار!).


التحول السيئ.. يؤدي إلى تحول أسوأ

 وما حصل بعد 9 نيسان 2003 يقدم للشعوب درسا أن الدولة الأقوى التي تحشد حلفاءها معها بدعوى الأطاحة  بطاغية يشكل خطراً على العالم، وتحرير شعب من نظام دكتاتوري الى نظام ديمقراطي، فإنه في حقيقته محتل يهمه تحقيق مصالحه حتى اذا تطلب ذلك تخريب الوطن بأحدث الأسلحة وأشدها فتكاً وقتل عشرات الآلاف من أبنائه.. وأنّه يأتي بحكّام يطيعونه وينفذون أوامره، وان الذين يتعاونون معه هم من الذين تهمهم مصالحهم ولا تعنيهم مصلحة الوطن او الشعب، وأن هذا الحال يوصل من يكون الحكم بأيديهم إلى الاستفراد بالسلطة والثروة، وأن هذا الاستفراد يؤدي الى الفساد.. ليثبت حقيقة أن التحول السيئ يؤدي إلى تحول أسوأ، تمثل في ان العراق انتقل الى المراتب الاولى بين الدول الفاسدة في العالم.

فوفقاً لتقرير المؤشر الدولي للفساد لمنظمة الشفافية الدولية العالمية 2005 جاء العراق بالمرتبة 137 عالميا والأسوأ في الفساد عربيا، وتقدم الى المرتبة 160 ليحتل المركز الثالث عالميا في الفساد عام 2006، وتقدم في 2008 الى المرتبة 179 ليحتل المركز الثاني عالميا.. وما يزال بين الدول الأكثر فسادا في العالم لغاية الآن (2023).. وبأرقام مهولة من مليارات الدولارات المنهوبة.

وما حصل يوصلنا الى ما يشبه النظرية نصوغها بالآتي:

(اذا زاد عدد الأفراد الذين يمارسون تصرّفا يعدّ خزياً،وغضّ الآخرون الطرف عن أدانته اجتماعيا أو وجدوا له تبريرا،وتساهل القانون في محاسبة مرتكبيه.. تحول الى ظاهرة ولم يعدّ خزياً كما كان).

 وفي القوانين النفسية الخاصة بتطور المجتمع.. فإن التصرف الخزي مدان لأنه يكون شاذا.. والشاذ بالمعنى الاحصائي، يعني قلّة عدد الذين يمارسون هذا التصرف في المجتمع، ويعني في المعيار الاجتماعي ان يكون متباينا نوعيا عن المعايير المقبولة. فبرغم أن السرقة في الليل كان يمارسها عدد من فقراء الريف العراقي زمن الاحتلال العثماني بسبب الفقر وقسوة السلطة وظلم الاقطاع، الا انها كانت تعدّ فعلا مشينا في المجتمع العراقي الحديث لدرجة أن الناس كانوا لا يعطون السارق زوجة. والحكم نفسه بخصوص الفساد اذ كان يعدّ، بقيام الدولة العراقية، خزيا لأن مرتكبيه قلّة ولأنه يخرج عن المعايير الاجتماعية.. ولهذا كان الناس يحتقرون من يقوم به وينبذونه. ونتيجة لهذه العقوبات الاجتماعية (احتقار الفاسد، ونبذه اجتماعيا..)، والعقوبات القانونية (السجن واسترداد المال المسروق)، فإن الفساد ظل زمنئذ حاله حال اية ظاهرة اجتماعية، لا تقربه الا قلّة تنتهك مبدأ الحلال والحرام فيما الكثرة المطلقة تعدّه خزياً.

وتعلّمنا أحداث 9 نيسان أن الظاهرة الاجتماعية يكون لها اكثر من سبب، وان الأسباب السابقة (الاحتلال، تعدد الانتماءات والولاءات والهويات، الفساد.. ادت الى حصول كارثة في القيم والتقاليد العراقية في مفارقة غريبة هي أن القلة المنبوذة التي كانت تمارس الفساد، اصبحت بعد حكومة 2006 وما بعدها.. كثرة، والكثرة التي كانت ملتزمة بمبدأ الحلال والحرام توزعت بين من احلّ نفسه من هذا الالتزام وبين من ضعف او تخلخل لديه فصار مترددا.. وبين قلّة تجاهد في الحفاظ عليه، ليثبت صحة تنظيرنا الجديد في أعلاه.

والتساؤل: لقد مضى عقدان على هذا الحال الذي لم يشهده العراق في تاريخه السياسي في مئة عام، فمتى يكون بمثل الدول التي تحكمها أنظمة ديمقراطية؟

والجواب: إن التحولات السيئة اذا وصلت الى أسوأ مراحلها المتمثلة بفساد الأخلاق وتهرؤ القيم، واستطاعت السلطة إفساد النفوس بالمال والجاه والقوة وجعل الناس يتوزعون بين متقلّبين ومتملّقين ويائسين.. فإنَّ التغيير لن يكون بالسرعة التي يتمناها العراقيون، بل سيتطلب النزول من أسوأ التحولات الى ما دونه وقتا طويلا وفقا للقوانين الاجتماعية.. إن لم يحصل حدث خارجي يضعف او يطيح بمن كان السبب.


• توثيق

في 24 /6 /2003 كتبنا خطابا موجها الى السيد بريمر بوصفه حاكم العراق موثق في صحف عراقية، نلتقط منه نص عبارة واحدة:

(.. وصحيح أنّكم غمرتم معظم العراقيين بالفرح لتخليصهم من نظام رهيب وكابوس مرعب لكنكم بدأتم تصادرون هذا الفرح منهم، وأن ما فعلتموه هو انكم اخرجتم حاكما من قصره لتدخلوا انتم فيه، وبضريبة باهضة.. فكان ان حصل لديهم انكسار نفسي من خيبة أمل نخشى عليكم ان تتحول الى قطيعة نفسية، ويغير حتى المتفائلون بكم ما طبعوه عنكم في مخيلتهم: "ما أجمل الجديد" الى "ما أقبحه").


* مؤسس ورئيس الجمعيَّة النفسيَّة العراقية