يقظان التقي
محمد جمال ظاهرة فنية على الساحة الموسيقية والغنائية اللبنانية والعربية. رحل بعيدا عن عمر 89 عاما، بعد انقطاع طويل عن محبيه، وعن العمل الغنائي والتلحين، وقد تميز بمشوار فني لذيذ وجميل وأنيق. لكن لم يعرف عنه الكثير في منفاه، وإن كان عانى في سنواته الأخيرة في أميركا تراجعا في صحته، وهذا يفسر خبر وفاته، الذي جاء بعيدا.
فنان تمكن من الحضور والتجديد في الأغنية والموسيقى، ابدى شغفا في الضوء، في انفتاح على الجديد الغنائي، بنظرات مبتكرة، وبمواد غنائية حيّة، لاقت نجاحات مهمة. فقد وضع ولحن أغاني كثيرة بحساسية جديدة ساهمت في اطلاق شاب، أقرب إلى الفنان الشامل. لم يكن محمد جمال مجرد فنان، شكل موجة متجددة من الاغاني الشعبية والطربية عبرت عميقا إلى وجدان الشعب العربي، من نوع أغنية "اه يا أم حمادة"، التي صارت بمثابة "ايقونة" شعبية، لا تقل قوة وانتشارا ورواجا عن أغاني الكبار. نشأ محمد جمال في بيئة طرابلسية من أعمال شمال لبنان، كان والده يملك ويدير معملا لبيع الآلات الموسيقية وتصليحها في طرابلس، كما كان يعلم العزف عليها، وكان يحفظ دروس العزف على آلة العود التي يلقيها والده على تلاميذه، ويتدرّب عليها.
لكنّ لم تتجاوز حدود الهواية والمزاج، وبقي محصورا في أداء الأغاني المشهورة في تلك الفترة، إضافة إلى الأناشيد والتلاوة القرآنية..
نال شهادة في الهندسة الكهربائية لم تمكنه الحصول على وظيفة رسمية في شركة الكهرباء،. وهنا كانت الانعطافة في مسيرته..
لجأ إلى الإذاعة اللبنانية، حيث قُبل وكانت أولى أغنياته "قالولي أهل الهوى" و"أسمر يا شاغل قلبي".
تعرّف في تلك الفترة على الملحن القدير حليم الرومي، الذي مارس تأثيرا في نفس الشاب الراغب في إثبات الذات كملحن ومطرب في آن واحد.
ثم التقى لاحقا المنتج والمخرج الشهير حلمي رفلة، ووقع معه عقدا للمشاركة في فيلم "الأرملة الطروب"، حيث سافر عام 1955 للعمل في الفيلم الذي صوّر في إسطنبول ومصر، وشاركت فيه نخبة من نجوم السينما المصرية مثل عبد السلام النابلسي وكمال الشناوي وليلى فوزي وحسن فايق وزينات صدقي. قدّم جمال في هذا الفيلم أغنية "آهين يا ناس" الذي حاول فيها إثبات قدرته على المزاوجة بين التلحين والغناء، كما قدّم أغنية بالفصحى أغنية "أشرقت الأنوار".
تعرف على المغنية طروب عام 1957 في لبنان ونشأت علاقة حب بينهما أفضت إلى الزواج، والانتقال إلى الأردن لسنوات طويلة طبعت شخصيته باللون الاردني، إذ شكلا معا أحد أبرز الثنائيات الغنائية، التي طبعت مرحلة الستينات، والتي قدما فيها نسخة مختلفة وجديدة وحيوية من فكرة "الدويتو" في الدلع والغنج والدلال.
جمعت الثنائي بين اللهجتين اللبنانية والمصرية وعرفت أغانيهما شهرة واسعة، ومن أبرزها أغاني "أنا درويش" و"اطلبي واتمني" و"يا قلبي وعيني" و"نوّر يا فانوس" و"من فضلك يا ست البيت.. جعت وبدي اتغدى"، و"خبريني كنت فين"، و"أسمر وسمارة"، و"الرزق على الله"، و"حبك بقلبي نار"، و"قولي لأمك"، و"ياختي عليه"، و"أنا شفتك فين".
تجربة مميزة لأكثر من سبع سنوات، انتهت مع انفصال الثنائي عام 1964. اختار المغني الطرابلسي الخروج من لبنان وسط خراب الحرب الأهلية، إذ هاجر عام 1981 إلى لوس أنجليس حيث توفي..
عاد إلى لبنان لفترة وأطلق في العام 1985 أسطوانة "علمني الحب"، التي ضمت مجموعة من الأغاني، التي عرفت نجاحا معقولا. ولكنه لم يستطع أن يستعيد نجاحات السبعينات، وعلاقات كان بدأها (هامشيا) مع الاخوين رحباني في أعمال استعراضية غنائية لم تقدم له شيئا كثيرا، غير مادة ارشيف يضم الكلاسيكي والموشحات والطرب، ولكن ما بقيّ منه هو موجة الأغنية الشبابية، التي قد يكون أول نجومها في العالم العربي، وممهد الطريق لنشوء لموجاتها اللاحقة.
محمد جمال عبر بروحه إلى الاغنية، ضربة قلب موسيقية، وباسلوبه الخاص، وملامح جميلة، شبه الاغاني التي غنّاها ولحنها وعاشها عائلته الفنية، إلى أن تملكته رغبة في صمت المنفى. فنان حساس لمع كثيرا، حساس/ شغوف/ قريب/ مباشر/، وهي صفة نادرة في هذا الزمن، منخرطا في التزاماته العربية في أ غنية واخرى منها مع طروب أغنية "سورية يا حبيبتي" ( من موسيقى الجيش الروسي). يترك في رحيله الكثير من الانطباعات الرائعة.