سليم سوزه
في صبيحة يومٍ باردٍ للغاية، إذ صفعَ الطقس {الصفرَ} درجتين تحته، كنت نزيلا في أحد فنادق المدن الأمريكية الشمالية الباردة. استيقظت صباحي على طبول أمعائي الحزينة، تلك التي كانت تتلوى جوعاً فتصدر أصواتاً هي الأعلى من صوت جرس الساعة الكئيب الذي يذكرني بروتين العمل اليومي المكروه.
ما هذه المدينة البائسة التي لا تشرق الشمس فيها! ضبابٌ كثيف حوّل المكان إلى غابة بيضاء توارت خلفها خضرة الأشجار وواجهات الأبنية الملوّنة.
على عجل، أفرغتُ حملَ أحشائي في حمام غرفتي الصغير ذاك، وغسلت وجهي ويديّ، ثم غيّرتُ ملبسي وخرجتُ من الفندق في رحلة لاصطياد طعام الصباح المألوف لرجلٍ شرقي مثلي. صرتُ أمشي أحياءً كاملة، علّني أجد فطوراً صباحياً أفهمه وأعرفه. ليس ثمة شيء إلّا شطائر النقانق القبيحة ومعجّنات دائرية يسموها "دوْنَت"، وهي عبارة عن كعكٍ مصنوعٍ من الهواء والماء والسكّر فحسب. لا بيض ولا "جبن عرب"، ولا خبز عراقي أو شاي أسود يفوح منه الهيل كما يفوح العطر من زهرة ربيعية يانعة.
إنّهم لا يشربون الشاي. يشربون القهوة صباحاً. أنا أكره القهوة. إنها تذكّرني بالأموات وبأولئك الشعراء السمان الذين يرتدون قبعات أعجمية ويجعلون من القهوة علامةً للثقافة.
أنا ابنٌ مخلص للشاي.
لا شيء يؤنسني في هذه المدينة البليدة إلّا الأمل. الأمل طبيب الجوع.
أخيراً، وجدتُ مطعماً يقدّم وجبة افطارٍ تبدو شهية ومألوفة. وما إن لمحت عيني كلمة "البَيض" في لائحة هذا المطعم حتى أدركت أن ثمة شيئاً يؤكل.
من شعاع النور الساطع وُلِدَ الظلام، وها هو ذا الأمل يولد عندي من نقيضه أيضاً، اليأس. لقد كان هذا المطعم يقدّم بيضاً مخلوطاً مع الأفوكادو وممدّداً على ظهر فلفل الـ "چيپوتلي" الأحمر الحار، تتخلّله قطع صغيرة من الدجاج "المدخّن"، أي المشوي على الفحم، في ملفوفة خبز مكسيكيٍ حار ومليء بالنكهات والبهارات المثيرة، الخبز الشبيه بخبز "تنورنا" نحن العراقيين. خلطة غريبة تجمع النقائض، لكنها تستحق المخاطرة.
ليس هذا فحسب، بل هناك الشاي البريطاني الذي جعلني لا أفكّر في مطعمٍ غيره قط. قلت في سرّي لنجرّب أكل "الافرنجة" هذا، فبالتجربة وحدها تولد المعرفة.
طلبتُ من النادل الأبيض البدين الذي وشمَ على عنقه صليباً صغيراً أن يأتيني بهذه الملفوفة مع الشاي.
وسط زحمة الزبائن وضجيج الحاضرين، وتحت وقع البرد الذي ينال من عظامك كما تنال العمّة من كنّتها، سقطت عيناي على فتاةٍ ثلاثينية أنيقة وطويلة، شقراء الشعر بعيون زرقاء واسعة.
كانت جالسة على الطاولة المقابلة بملابس رسمية؛ جبيبة قصيرة طحلاء علَت ركبتيها أربعة أصابع، وسترة باللون ذاته غطّت معظم قميصها الأبيض إلّا شقَّ ثدييها اللذين بَدَوا ككرتي ثلج شمختا بعنف على قفصها الصدري حتى كادتا تنفجران من تحت القميص وتخرجان، لولا الأزرار التي روّضت جيداً هذين النتوءين النافرين المذعورين وأحكمت قبضتها عليهما بقوة.
ثمة شريط أحمر رفيع دارَ حول رقبتها البيضاء للغاية، تضعه النساء بغية كسر ذلك البياض المفرط بلونٍ أكثر إغراءً حين يمتزج معه. كالبلّور الصافي، كانت رقبتها تشعُّ بياضاً ونقاءً حد أنني كنت أرى الماء النازل من زردومها الشفاف ذاك كلما شربتْ من قدحها. على وجهها الأبيض ذاك، افترشتْ كومتان من النَمَش الجميل، كومة على خدها الأيمن وأخرى على خدها الآخر. نَمَشٌ ربّاني رشيق لا يشبه ذلك الذي اخترعته وسلّعته ماكنة التجميل الرأسمالية. لقد أخذ وجهها البريء وحده ثلثي جمال النساء ويزيد.
آه لو كان بيكاسو حيّاً، لحاولَ رسمها مرتين، مرة على الورق وأخرى على السرير.
ما إن أتاها النادل بملفوفة بيض تشبه ملفوفتي، حتى صارت تبحث يمنةً ويسرة كمن أضاعت محفظتها.
لا، إنها كانت تبحث عن شوكة وسكين فحسب. ما بال أولئك الناس الذين يأكلون الشطائر والملفوفات بالشوكة والسكين! لقد خرّبت هاتان الاداتان الارستقراطيتان متعة الأكل وثقافة تفاعل الشفتين مع الوجبة بلا
وسيط.
طال انتظاري، حتى اضطجعتْ أخيراً ملفوفتي مع قدح الشاي على الطاولة أمامي. يا له من "سندويچ"! لم أذق، أنا القادم من بلاد "الپاجة" و"التشريب" و"الزوري"، افطاراً لذيذاً مثل هذا من قبل. صدقَ مَن قال "عند البطون تعمى العيون".
لم أكن أنظر إلى شيءٍ من حولي، ولا إلى تلك "اللّعابة" الحسناء التي أوشكتْ تُنهي وجبتها، حين كنت أقضم جسد شطيرتي
المسكينة.
لقد وَلَّدتْ تلك التجربة فيَّ حبَّ اكتشاف المطاعم الجديدة والتعرّف على ما لم أكن أعرفه. فالطعام ثقافة ولغة ووسيلة من وسائل تواصل الشعوب مع بعضها.
منذ شطيرة ذلك اليوم اللذيذة، أصبح هذا المطعم ضالتي الوحيدة حين أنشد طعام الإفطار.
عرفتُ أن ثمة طعاماً آخر من صنع مطابخ العالم يمكنه أن يزعزع مركزية "الباجة" و"البرياني" و"الدولمة" عندنا نحن
العراقيين.