انتصارات صغيرة تُنذر بمعارك طاحنة

قضايا عربية ودولية 2023/07/05
...

 توماس غيبونزنيف ويوري شيفالا

 ترجمة: أنيس الصفار 


حَسِبَ الجنود الأوكرانيون أنَّ الروس سوف ينسحبون بسرعةٍ من بلدة “نيسكوشن” الصغيرة في جنوب أوكرانيا، لاسيما بعد القصف المدفعي الكثيف المنسَّق والضربة الصاروخيَّة التي هوت على مقرِّ قيادتهم.

بدلاً من ذلك ثبت الروس في خنادقهم وواصلوا القتال طيلة يومين قبل التخلي عن تلك القرية في الشهر الماضي تاركين جثث قتلاهم على جوانب الطرقات وأكداساً من أغلفة الذخائر المستهلكة متناثرة حول مواقع دفاعهم المؤقتة.

هزيمة الروس في 9 حزيران كانت أول فوز تحققه أوكرانيا في هجومها المضاد المستمر الذي دخل الآن أسبوعه الرابع، ولكن بخطى أبطأ مما كان متوقعاً له. من هذا المنطلق يمكن اعتبار معركة “نيسكوشن” تحذيراً مبكراً بأنَّ آمال كييف وحلفائها الغربيين بإحراز نصر سريع لم تكن واقعية وأنَّ كلَّ ميل في هذا التقدم داخل المناطق التي يحتلها الروس سيكون امتحاناً عسيراً.

تلك المعركة التي استمرت أياماً خاضتها أساساً فصائل من المقاتلين المتطوعين الذين هاجموا مشياً على الأقدام بدلاً من الألوية المدربة على يد حلف الناتو والمجهزة بالدبابات وناقلات الجنود الغربية المدرعة التي تصور المحللون العسكريون أنها ستكون في صدارة ذلك التقدم الذي طال انتظاره.

يتبين من الوصف الذي قدّمه الجنود عن المعركة، وكذلك شواهدها المنظورة التي لا تزال متناثرة حول “نيسكوشن” بعد مرور أسبوعين على انتهائها، أنَّ الفضل في النجاح الأوكراني قد ارتكز على البراعة التي ساهمت في مباغتة القوات الروسية.

في الأيام التي أعقبت تحرير قرية “نيسكوشن”، الذي أعلن عنه في 10 حزيران، تمكنت القوات الأوكرانية من استعادة عدد من القرى الواقعة أبعد باتجاه الجنوب. ولكن من بعد تلك السلسلة من الانتصارات جنح الهجوم الأوكراني إلى التباطؤ، إذ وقعت القوات الأوكرانية في مستنقع الدفاعات الروسية العنيدة فتصاعدت أعداد الإصابات وتعاقبت حقول الألغام حقلاً تلو حقل.

دارت معركة “نيسكوشن” بين 70 جندياً أوكرانياً من لواء الدفاع المناطقي 129 وما يناهز 150 جندياً روسياً من لواء البنادق الآلي 60 المستقل، إلى جانب كتيبة من السجناء الروس الذين تحوّلوا إلى جنود يُعرفون باسم الوحدة “ستورم زت”.

يقول فاليري، وهو جندي من اللواء 129 شارك في تلك المعركة، سيُعرف بالاسم الأول فقط: “كان علينا أن نحرِّر القرية منزلاً بعد منزل. في بداية الهجوم المضاد حسبنا أنَّ الموجودين منهم لا يتعدون 20 فرداً”.

احتلَّ الروس “نيسكوشن”، وهي قرية يقارب عدد سكانها 500 شخص، منذ الأشهر الأولى للحرب، وقد أتاح هذا للقوات الروسية أن تعزز تمركزها هناك. التضاريس المحيطة بهذه القرية، المتمثلة بالارتفاع التدريجي من جهة الغرب ونهر “موكري يالي” إلى الشرق، كان معناها أنَّ “نيسكوشن” تقف بمثابة بوابة صوب سلسلة من القرى الواقعة إلى الجنوب. باختصار: كان هناك طريق واحد للدخول وطريق واحد

 للخروج.

كان الروس يعلمون هذا، لذا توقعوا أن يكون التقدم الأوكراني على القرية مسنداً بالدبابات والمعدات الثقيلة الأخرى عبر الطريق الرئيس فيها الممتد من الشمال إلى الجنوب. يقول الجنود الذين شاركوا في تلك المعركة إنَّ الدفاعات الروسية كانت مؤلفة من الألغام المضادة للدبابات وخزين وافر من القذائف الصاروخية المضادة للدبابات التي لا يزال بعضها متبقياً في مقر القيادة الروسي.

بيد أنَّ الهجوم، في مراحله الأولى في الأقل، لم يستعن بأسلوب “الأسلحة المشتركة” أو ستراتيجية الناتو العسكرية التي تعتمد التنسيق بين نيران المدفعية وحركة المشاة والدبابات التي كثيراً ما يشير المحللون العسكريون الغربيون والمسؤولون الأميركيون إليها باعتبارها من الضرورات الحاسمة لنجاح الهجوم الأوكراني المضاد.

بدلاً من استخدام الدبابات، التي يمكن رصدها بسهولة من الجو أو سماع أصواتها على الأرض، دخل الأوكرانيون القرية بهدوء سيراً على الأقدام في مجاميع صغيرة من المشاة في أعقاب قصف مدفعي شبيه بالقصف في أيام الحرب العالمية الأولى.

لكن على عكس أسلوب القصف المدفعي المكثف الذي غدا مألوفاً في تلك الحرب تضمنت الضربة الأوكرانية على “نيسكوشن” أيضاً هجوماً بالصواريخ الموجهة. أصابت صواريخ منظومات “هيمارس” التي أرسلتها الولايات المتحدة مقر القيادة الروسي الواقع في الركن الشمالي الشرقي من القرية وكان في الماضي مدرسة، فألحقت بالمبنى أضراراً لكنها لم تنجح في دكه.

يتألف معظم مباني “نيسكوشن”، التي يقارب عددها 200 منزل ومتجر، من طابق واحد وهو أمر شائع في أرياف أوكرانيا. معنى ذلك أنَّ مبنى المدرسة المكون من طابقين كان يتميز بأهمية ستراتيجية تجعله صالحاً لأي شكل من أشكال الدفاع. لذا تركزت معركة القرية بمعظم ثقلها على إخراج الروس من المدرسة التي بقيت مغلقة منذ الغزو.

كان الجنود الروس من اللواء 60 قد أعدّوا المبنى لمواجهة أي نوع من الهجمات، فحفروا ممرات تصل ما بين الصفوف كي يتمكن الجنود من التنقل دون تعريض أنفسهم للنيران، وهو تكتيك استخدمه مقاتلو “داعش” خلال معركة الموصل في العام 2017. كذلك أقام المدافعون مواضع لهم في السرداب وحفروا فتحات في الجدران تتيح استخدام المدافع الرشاشة.

أحد أوكار الرشاشات، وكان مقاماً في بئر السلم باستخدام أكياس الرمل مع ترك شق صغير لإطلاق النار، كان يواجه الطريق الممتد ما بين الشمال والجنوب وهو يمثل السبيل الوحيد لدخول القرية. هذا الموضع كانت تتناثر فيه المئات من ظروف الإطلاقات الفارغة، وهي دلالة واضحة على أنَّ المدرسة بقيت مشغولة ومدافعاً عنها حتى بعد ضربها بمدفعية هيمارس.

يقول دميترو، وهو جندي من اللواء 129 شارك أيضاً في المعركة: “لقد استمروا بالدفاع عن أنفسهم حتى بعد أن ضربت صواريخ هيمارس المقرّ، ولم نفلح في إخراجهم من المدرسة أخيراً إلا بعد أن استخدمنا المزيد من نيران المدفعية.”

بعد الوابل المدفعي الابتدائي الذي ركز على تدمير الألغام الأرضية المزروعة على محيط القرية وكذلك على المدافعين الروس داخلها، انتشر عشرات من الجنود الأوكرانيين انطلاقاً من الركن الشمالي الغربي للقرية وراحوا يناورون عبر ساحات غزتها الأدغال وركام مبان يتصاعد منها الدخان. بعد ذلك اندفعوا مهاجمين.

كان الأوكرانيون يتواصلون مع بعضهم أثناء التقدم بواسطة أجهزة اللاسلكي المحمول محافظين على الاتصال بطياري الطائرات المسيرة الذين يقودون طائرات صغيرة مما يتوفر في الأسواق. حين طالت المعركة أثبتت الطائرات المسيرة أنها لا غنى عنها، لأنَّ الجنود الأوكرانيين كانوا يعتمدون على طياري المسيرات ومتابعي المعركة عبر الفيديو باستخدام شبكة الإنترنت التي يوفرها لهم قمر ستارلنك في حين واظبت بطاريات المدفعية على تقديم الإسناد للهجوم.

في اليوم الثاني من القتال عُزِّز اللواء 129 بعشرين جندياً آخرين من كتيبة دبابات قريبة وهو يواصل جهوده لإخراج الروس.

في يوم 9 حزيران أوشكت المعركة على نهايتها حين تراجعت القوات الروسية التي أصبحت مهددة بالتطويق. أكثر من اثني عشر جندياً روسياً لقوا حتفهم أو جُرحوا ويقول الجنود الأوكرانيون إنَّ بعضهم تعرضوا للغرق أثناء محاولتهم الفرار عبر نهر “موكري يالي”. قتل في المعركة أيضاً ستة جنود أوكرانيين في الأقل.

يقول دميترو: “لم يترك الجنود الروس مواضعهم حتى الدقيقة الأخيرة.” تركوا أكداساً من الذخائر ومدافع رشاشة وبنادق وقذائف مدفعية. بعد ذلك قسمت غنائم الحرب بين الوحدات الأوكرانية التي شاركت في المعركة.

اليوم لا يبعد خط الجبهة سوى خمسة أميال تقريباً عن “نيسكوشن” ودمدمة المدفعية تتواصل حتى تكاد تبدو متصلة يخالطها صوت القذائف المنطلقة من المواضع المحيطة بالقرية.

ما من منزل في قرية “نيسكوشن” تقريباً إلا أصابه الدمار أو ناله ضرر، وآخر من تبقى من سكانها تم إخلاؤهم بعد المعركة. في الشوارع تهيم القطط بحثاً عن طعام، ومبنى المدرسة لم تتبق منه سوى صدفة متداعية محترقة. الشاهد المهلهل الوحيد على أنَّ هذا المكان كان ذات يوم مكاناً لتلقي العلم إرب من صفحات كتاب مبعثرة على الأرض ومضرب متفحم لكرة المنضدة وكرة قدم نصف منتفخة ملقاة وسط القنابل اليدوية وأقنعة الغازات السامة والضمادات المهملة. 


• عن صحيفة “نيويورك تايمز”