كيف انزلقت السعودية من يد أميركا واقتربت من الصين

قضايا عربية ودولية 2023/07/05
...

 كمبل ماكديارميد

 ترجمة: الصباح


عندما التقى وزير الدفاع الأميركي، وزير الخارجية الفرنسي في العام 2010 للتباحث في كيفية إقناع الصين بدعم العقوبات المفروضة على إيران، ذكر له أن مفتاح الحل ربما يكون في يد المملكة العربية السعودية.

قال “روبرت غيتس” متحدثاً إلى “برنارد كوشنر”، كما جاء في مذكرة الاجتماع التي نشرت لاحقاً على موقع “ويكيليكس”، إن السعوديين لديهم الرغبة في محاربة الإيرانيين حتى آخر أميركي، وإن الوقت أزف لدخولهم اللعبة.

مر على ذلك ثلاثة عشر عاماً وتغيرت أحوال العالم وبدأت تحالفات جديدة بالتشكل سريعاً، فالرياض لم تعد مطمئنة البال في اعتمادها على استمرار تولي واشنطن دور المصد بوجه طهران، وفي ظل عالم يتزايد تعدد الأقطاب فيه بلا توقف؛ بدأت السعودية تبحث في أماكن أخرى عن شركاء أمنيين لها يكونون أقل عرضة لتقلبات الدورات الانتخابية وأهوائها وأقل صخباً بخصوص قضايا حقوق الإنسان.

أبان ذلك؛ كانت الصين الصاعدة تنتهج سياسة خارجية أكثر اعتماداً على القوة بقيادة الرئيس “شي جنبنغ”، وبدلاً من بقائها عرضة للحث والتحفيز كي تدعم العقوبات ضد إيران، مثلما كانت في 2010، تأمل بكين اليوم إعادة تشكيل الشرق الأوسط من خلال التوسط في صفقة مصالحة كبرى بين الرياض وطهران.

المفارقة هنا هي أن الصين قد نجحت في اغتنام ثغرة نفذت منها إلى منطقة الخليج، في نفس الوقت الذي كان الرئيس الأميركي “جو بايدن” ينقل فيه مرتكز ثقله الذي كثر التبجح بشأنه بعيداً عن منطقة الشرق الأوسط بهدف التصدي لنفوذ الصين العسكري والاقتصادي في منطقة آسيا والمحيط الهادئ.

عملية فك أميركا ارتباطها بالشرق الأوسط كانت تأخذ مجراها على مدى أكثر من عقد من الزمن، فخلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين كانت منطقة الخليج مسرحاً شديد الحساسية بالنسبة للولايات المتحدة وكذلك بريطانيا بدرجة أقل.  كانت واشنطن حينها شديدة الاعتماد على النفط السعودي، وبالمقابل كان بوسع الرياض أن تتوقع إمدادات ثابتة من الأسلحة الأميركية، بالإضافة إلى وجود شريك أمني معتمد ملؤه الرغبة في احتواء خصمها الإقليمي اللدود إيران، ويؤكد النقاد أن النفط كان لولب سياسة واشنطن في الشرق الأوسط، وحتى غزو العراق في 2003 كان واقعاً ضمن تلك السياسة.

بيد أن اعتماد الأميركيين على نفط الخليج انخفض انخفاضاً كبيراً خلال السنوات الخمس عشرة الماضية، بعد أن رفعت ثورة “النفط الصخري” إنتاج الطاقة محلياً في الولايات المتحدة بإدخال وسائل التصديع المائي والحفر الأفقي. اليوم تستورد الولايات المتحدة أقل من 6 % من احتياجاتها النفطية من المملكة السعودية.

لقد كانت السياسة الخارجية الأميركية بطيئة في اللحاق بركب الحركة نظراً لانشغال الإدارات المتعاقبة بكيفية تحرير الولايات المتحدة من حروبها اللانهائية المُكلِفة ضد “الإرهاب” التي لم توضع لها أهداف محددة بدقة أو ستراتيجيات مدروسة للخروج من العراق وأفغانستان ومناطق أخرى.

عملت إدارة أوباما، ومن بعدها إدارتا ترامب وبايدن، على اتخاذ خطوات للتقليل من أهمية الشرق الأوسط ستراتيجياً، حتى أثناء مواصلة واشنطن قيادة الجهود الدبلوماسية في المنطقة، كالدفع باتجاه التطبيع الذي شهد اعتراف الإمارات العربية المتحدة والبحرين بإسرائيل في العام 2020. 

وفي حدث غير بعيد، شن الرئيس بايدن حملة من التعهدات بجعل ولي العهد محمد بن سلمان، الذي يعد الزعيم الفعلي للمملكة السعودية، شخصاً “منبوذاً” بعد أن خلصت وكالة المخابرات المركزية الأميركية إلى أنه هو الذي أصدر الأوامر باغتيال جمال خاشقجي، وهو كاتب أعمدة في صحيفة “واشنطن بوست”، في قنصلية المملكة بإسطنبول. 

بعد ذلك، من خلال انسحابه من أفغانستان وفك ارتباطاته بالشرق الأوسط، أمل الرئيس بايدن بنقل محور ثقله لمواجهة الصين ونفوذها العسكري الاقتصادي المتصاعد في منطقة المحيطين الهندي والهادي وما وراءهما. 

لكن مع فقدان ذلك الذي كان ذات يوم شريكاً أمنياً صنديداً وتصاعد نبرة الحديث عن حقوق الإنسان؛ غدا واضحاً أن القيادة السعودية قد شعرت بالاستياء وأخذت تفتش في أماكن أخرى عمّن يحمي مصالحها. 

في ذلك الوقت بالذات كانت الصين تتطلع هي الأخرى إلى لعب دور متسم بالاستباقية في الشؤون العالمية، فبعد مرور عقد على توليه السلطة، كشف الرئيس “شي” في آذار 2023 عن شعار جديد مؤلف من 24 رمزاً (حرفاً) حددت فيه الخطوط العامة لما قد يصبح شعار السياسة الخارجية الجديدة التي صار يشار إليها بعبارة “شي بلوماسية”.

ذلك أن الرئيس “شي”، مع دخوله دورة رئاسية ثالثة غير مسبوقة، أعلن أن الصين يجب أن تكون عزوماً، مستبقة للأحداث، وممتلكة لجرأة القتال. هذه الصياغة كانت أكثر حركية بكثير من ستراتيجية الزعيم الصيني السابق “دنغ شياو بنغ” المؤلفة كذلك من 24 رمزاً (حرفاً) التي أعلنت في العام 1990. وضعت تلك الستراتيجية في خضم أجواء قلق خيمت على بكين مع  تداعي الشيوعية وانهيارها في أوروبا الشرقية، وهي ستراتيجية تؤكد على تأمين موقف الصين تحيناً للحظة المناسبة مع تجنب الظهور ولفت الأنظار.

في شباط الماضي، كان هناك استعراض مهم لقوة بكين الجديدة، حين كشفت الصين عن أنها قد نجحت في إحكام صفقة بين إيران والمملكة السعودية لإعادة العلاقات الدبلوماسية بينهما، في انقلاب دبلوماسي أخذ واشنطن على غرة.

بعد ذلك، أعلنت السعودية مؤخراً مشاركتها في “منظمة شانغهاي للتعاون”، وهو تكتل أمني تقوده الصين. أما في واشنطن فقد قلل “فيدانت باتيل” المتحدث باسم وزارة الخارجية الأميركية من أهمية هذا القرار بقوله إنه “كان متوقعاً منذ وقت طويل، وإن لكل دولة علاقاتها الخاصة بها”.

تعكس علاقات الرياض التي تزداد عمقاً مع بكين تحولاً في أسواق تصدير النفط، فقد أصبحت الصين المستورد الرئيسي للنفط السعودي، إذ كانت تشتري 1,75 مليون برميل يومياً خلال العام 2022. ولأجل تقوية أسس هذه العلاقة قامت شركة النفط السعودية العملاقة “آرامكو” في الأيام الماضية برفع استثماراتها في الصين، التي تصل إلى عدة مليارات من الدولارات، عن طريق صفقتين هما أكبر ما خرج إلى العلن منذ زيارة “شي” للمملكة في كانون الأول الماضي.

بتحركاتهم الأخيرة نحو الصين؛ يبعث السعوديون رسائل تشير إلى أنهم حريصون على تأمين مصالحهم الوطنية بما يتناغم مع التغيرات التي تشهدها المنطقة والعالم من حولهم، كما يقول “كرستيان أولرتشسين” الباحث في شؤون الشرق الأوسط من معهد بيكر بجامعة رايس.

يمضي أولرتشسين مسترسلاً: “يتأمل محمد بن سلمان المشهد على المدى البعيد ويضع تقييمه للعالم الذي ستدخله المملكة السعودية بحلول منتصف القرن، وفي ذلك العالم يبدو أن الصين تلوح له بحجم يفوق حجم الولايات المتحدة من جميع النواحي”.

هذه الحسابات تتباين تبايناً صارخاً عما كان عليه الحال في 2010 يوم حاول “غيتس” التهوين من حجم الضرر الذي أوقعه الكشف المحرج عن طريق تسريبات “ويكيليكس” على السياسة الخارجية الأميركية.

يقول غيتس: “الحكومات تتعامل مع الولايات المتحدة لأن ذلك يجري في مصلحتها، وليس السبب أنهم يحبوننا أو يثقون بنا، أو لأنهم يصدقون أننا قادرون على حفظ الأسرار. لكننا مع هذا نبقى ضروريين كما كنا في السابق، ونبقى كما قيل عنا أننا الدولة التي لا استغناء عنها. لهذا السبب سوف تبقي الدول الأخرى على تعاملها معنا”.

بيد أن الولايات المتحدة في الواقع لم تعد تلك الدولة التي لا استغناء عنها.. في الأقل ليس بالنسبة للرياض.


• عن صحيفة “ديلي تلغراف”