المنطق الأخلاقي المعتل

قضايا عربية ودولية 2023/07/16
...

  “نيويورك تايمز”  
 ترجمة: أنيس الصفار

وفق المنطق الوحشي للحرب قد تبدو الذخائر العنقودية سلاحاً مقبولاً تماماً لدعم الهجوم الأوكراني المضاد المتعثر بمواجهة قوات روسية متخندقة جيداً. هذه القذائف من قياس 155 ملم تحوي الواحدة منها 72 قنيبلة صغيرة الحجم خارقة للدروع قاتلة للجنود، وهي تطلق بواسطة المدافع على أهداف تبعد نحو 30 كيلومتراً لتنتثر قنيبلاتها مغطية مساحة واسعة.
ففي يوم الجمعة الماضي أعلنت إدارة بايدن أنها سوف تباشر تسليم هذه الأسلحة إلى أوكرانيا وسط اعتراضات من جانب منظمات حقوق الإنسان وحلفاء رئيسيين للولايات المتحدة وجهات أخرى. قال الرئيس بايدن: إن الولايات المتحدة سوف تسحب تلك التجهيزات من خزين أسلحتها العنقودية الضخم إلى أن يتمكن المجهزون من سد النقص الذي تعاني منه أوكرانيا في قذائف المدفعية التقليدية، وهي سلاح أساسي في أسلوب الحرب الثابتة الدائر في شرقها وجنوبها.
مع استهلاك أوكرانيا ما في حوزتها من قذائف المدفعية العادية بمعدلات هائلة (الولايات المتحدة وحدها أرسلت أكثر من مليوني إطلاقة مدفع إلى أوكرانيا) قد توفر الذخائر العنقودية، التي تمتلك الولايات المتحدة خزيناً وفيراً منها، للقوات الأوكرانية تفوقاً في زحزحة الروس من خنادقهم وتحصيناتهم على امتداد جبهة تقارب 1000 كيلومتراً. أضف إلى ذلك أن روسيا نفسها قد استنزفت خزينها من الذخائر العنقودية منذ انطلاق الحرب، شأنها في ذلك شأن أوكرانيا، وبات القادة الأوكرانيون يلحّون في طلب المزيد والمزيد على وجه السرعة.
هذا منطق معتل يثير القلق. ففي وجه الإدانة العالمية الواسعة للذخائر العنقودية، والخطر الذي تمثله على المدنيين حتى بعد انتهاء القتال بفترة طويلة، لا ينبغي أن يكون هذا هو نوع السلاح الذي تتولى نشره دولة لها قوة الولايات المتحدة ونفوذها.
مهما بدت حجة استخدام أي سلاح متاح لحماية الوطن قوية ومبررة فإن الأمم المنضوية تحت النظام الدولي القائم على الأصول والقواعد قد سعت بشكل متزايد لرسم خطوط حمراء تحظر استخدام أسلحة الدمار الشامل، أو تلك التي تبقى تشكل تهديداً شديداً طويل الأمد على غير المقاتلين. ومن الجلي أن الذخائر العنقودية تقع ضمن الفئة الثانية.
السبب في ذلك هو أن القنيبلات التي تنثر لن تتفجر كلها كما هو مقرر لها، بل يمكن أن تتبقى آلاف من هذه القنابل الصغيرة غير المنفلقة مطروحة هنا وهناك لسنوات أو حتى لعقود ثم يأتي من يعثر عليها – وغالباً ما يكون هذا الشخص طفلاً استدرجته القطعة المعدنية الجذابة الملقاة على الأرض بلونها البراق وحجمها المقارب لحجم البطارية – فيتسبب بتفجيرها من دون قصد. يقال إن الأسلحة التي يستخدمها الروس والأوكرانيون اليوم سوف تخلِّف ما يصل إلى 40 بالمئة من القنابل غير المنفلقة متناثرة هنا وهناك، وهذه ستبقى مصدر خطر يتهدد الشعب الأوكراني بغض النظر عن نتيجة هذا الصراع.
في العام 2008 دفع هذا الخطر إلى اعتماد “اتفاقية الذخائر العنقودية”. يومها تحدث “بان كي مون”، الأمين العام للأمم المتحدة فقال: “لا يكفي الاشمئزاز الجماعي العالمي من هذه الأسلحة المريعة لوحده، بل ينبغي أن تتضافر قوى الحكومات والمجتمع المدني والأمم المتحدة لتغيير المواقف والسياسات إزاء تهديد تتعرض له الإنسانية جمعاء”. أما في الوقت الحاضر فقد اتفقت 123 دولة، بينها العديد من حلفاء أميركا، على الامتناع التام عن استخدام أو نقل أو انتاج أو خزن الذخائر العنقودية.
لكن لا روسيا ولا أوكرانيا كانتا من بين تلك الدول الممتنعة .. أو حتى الولايات المتحدة التي استخدمت ذخائرها العنقودية في العراق وأفغانستان. بل أن الولايات المتحدة عارضت تلك الاتفاقية معارضة شديدة. في ذلك الحين احتجت هيئة تحرير هذه الصحيفة قائلة: “إن الولايات المتحدة بصفتها المعارض الرئيس قد وفرت الغطاء لدول مثل روسيا والصين الرافضتين للحظر أيضاً. وبسبب ذلك ضعفت الاتفاقية لأن الدول الثلاث المشار إليها مجتمعة لديها مخزونات تزيد على مليار قنبلة عنقودية، وهذا أكثر بكثير من حجم الأسلحة التي يتوقع تدميرها”.
دفاعاً عن قرار تجهيز أوكرانيا بالأسلحة ساق “جيك سوليفان”، مستشار الرئيس بايدن للأمن القومي، حجة مفادها أن أوكرانيا سوف تستخدم الذخائر على أراضيها ولن تتجاوزها إلى أرض أجنبية. قال سوليفان: “أولئك الذين تحميهم أوكرانيا هم مواطنوها وهي مستعدة لاستخدام أي نظام تسلح يقع في يدها لتقليل الخطر الذي يتعرض له مواطنوها”.
لكن الأمر في الواقع ينطوي على مخاطر لا يستهان بها، إذ يقال إن الذخائر العنقودية التي استخدمتها القوات الأوكرانية والروسية قد أسفرت عن مقتل وإصابة عشرات المدنيين على أقل تقدير بإصابات شديدة، كما ورد في تقرير لمنظمة حقوق الإنسان نشر يوم الخميس الماضي. يذكر التقرير بشكل محدد أن الهجمات الأوكرانية الصاروخية بالقنابل العنقودية على المناطق التي يسيطر عليها الروس حول مدينة “إيزيوم” في 2022 قد تسببت بالعديد من الإصابات بين المدنيين الأوكرانيين. (نفت أوكرانيا استخدامها الذخائر العنقودية هناك).
يعود القرار لأوكرانيا فيما تختار من أسلحة للدفاع عن نفسها، ولكنه يعود لأميركا في تحديد الأسلحة التي سترسلها إليها. ففي بداية اندلاع الصراع كانت الولايات المتحدة تعارض إرسال أسلحة متقدمة خوفاً من أن يحفِّز ذلك على توسيع رقعة الحرب ويحثُّ الروس على القيام بأفعال انتقامية. لكن مع تطاول زمن القتال ونجاح أوكرانيا المتزايد في إثبات قدرتها على الوقوف بوجه روسيا بدأ تجاوز الخطوط واحداً تلو آخر وبدأت واشنطن وحلفاؤها منح الموافقات على توفير الأسلحة المتطورة مثل أنظمة باتريوت للدفاع الجوي وقواعد إطلاق صواريخ “هايمرس” بعيدة المدى ودبابات آبرامز وعما قريب ستكون هناك طائرات “اف – 16” النفاثة المقاتلة.
يدور جدل مشروع حول ما إذا كان بالوسع وصف هذا الوضع بأنه “مهمة آيلة للاتساع” مثلما حدث من قبل في فييتنام وأفغانستان. فإرسال ذخائر عنقودية إلى أوكرانيا يعتبر تصعيداً صريحاً للنزاع، الممعن في الوحشية والدمار منذ الآن. بيد أن القضية الأكبر هنا تتمثل في أنها مساهمة بسلاح أدانته معظم دول العالم، بما فيها أقرب حلفاء أميركا، باعتباره مرفوضاً أخلاقياً نظراً لاحتمال تسببه بمجازر دون تمييز حتى بعد رحيل المقاتلين بوقت طويل.
يتركز رد البنتاغون بخصوص هذه التحريمات على أن “معدل الإخفاق” في الأسلحة الأميركية (أي عدد القنيبلات الصغيرة التي تسقط وتبقى في أرض المعركة من دون أن تنفجر) منخفض إلى حدود لا تتعدى 2,35 بالمئة، مقارنة بنسبة 40 بالمئة في الأسلحة الروسية المماثلة، كما يزعم. وفي العام 2008 حدد البنتاغون نسبة واحد بالمئة للذخائر العنقودية، ومنذ ذلك الحين فرض الكونغرس حظراً على استخدام أو انتاج أو نقل أية أسلحة تتجاوز النسبة المذكورة. لكن حتى نسبة 2,35 بالمئة كمعدل قد تكون مضللة، إذ كتب “جون إسماي” يوم السبت الماضي في صحيفة التايمز مبيناً أن الذخائر العنقودية موضوع الجدال ربما كانت تتضمن نوعاً قديماً عرف أن نسبة الإخفاق فيه تصل إلى 14 بالمئة أو أعلى، وهذه يمكن أن تخلِّف وراءها أرضاً مبذورة بالقنابل الخاملة غير المنفجرة.
بيد أن البيت الأبيض تجاوز الكونغرس متذرعاً ببند في قانون المساعدات الخارجية يسمح للرئيس بأن يتجاهل قيود تصدير الأسلحة إذا ما ارتأى أن في تلك المساعدات مصلحة حيوية للأمن القومي. وقد شجب عدد من أعضاء الكونغرس تصدير تلك الأسلحة وسوف يضيفون تعديلاً على مشروع قانون الدفاع السنوي الذي يمنع تصدير كافة أنواع الذخائر العنقودية تقريباً. لقد كان هذا المجلس داعماً على طول الخط لقيام الولايات المتحدة وحلفائها بتزويد أوكرانيا بالسلاح لأنها من وجهة نظره أهل للمساعدة، بيد أن تسليمها أسلحة يدينها العالم لأسباب وجيهة سيكون تصرفاً خاطئاً. كانت الولايات المتحدة قد بدأت تنأى بنفسها بحكمة عن استخدم الذخائر العنقودية، لذا فإن تجاهل العواقب والتبعات بعيدة المدى لهذه الأسلحة الآن سوف يقوِّض سبباً أساسياً من أسباب دعم أوكرانيا وهو الدفاع عن الأعراف التي تضمن إشاعة السلام والاستقرار في أوروبا. التشجيع على استخدام ونشر   الأسلحة العنقودية من شأنه إضعاف دعم حلفاء كانوا حتى هذه اللحظة يلتفُّون حول القيادة الأميركية.
زخّات القنابل الصغيرة قد تمنح أوكرانيا ميزة عسكرية على المدى القصير، ولكنها لن تكون ميزة حاسمة، كما أن مكتسباتها لن ترجح على الأضرار التي ستلحق بالمدنيين الأوكرانيين الآن وربما لأجيال قادمة.