محمد حاذور
لا يوجد أسهل من الكلام والحديث لسائر البشر على وجه الأرض، ولا يوجد ثمة رادع يجبرهم على الصمت سوى الحكمة والتي بدورها لا تعطي نفسها لمن لا يضعها في مكانها المناسب.
ولا يوجد أرخص وأنفس من اللغة، على نقيض كنز الصمت الغني والمغني ملتزمة. طاقة الكلام المتوهجة على ألسنة الناس في شتى المواضيع والقضايا المجهولة والمدروكة على حد سواء تولد من نقص المعرفة الذي نعانيه، فبطلان العجب يتأتى من إدراك السبب.
وإذا ارتأينا فحص التاريخ وتجميع ما حدث من صراعات وحروب ومشكلات وأحداث كبرى، كان سببها الكلام في غير محله ونتيجته سوء الفهم الذي جاء بالويلات على الناس الذين لا ذنب لهم، ستكون المحصلة غير قابلة للعد. وكم عدد المرات التي تحدثنا فيها وقوبل حديثنا بسوء الفهم وقابلنا سوء الفهم بتوضيح المقاصد وشرحها. وكم رافقتنا خيانة التعبير بما نود
الحديث عنه.
إن سوء الفهم وخيانة التعبير وترهل العبارة، ما زلن لم يشبعن من ماء الصمت وزاد الإنصات والتسلح بالإصغاء والسعي ثم السعي نحو الفهم والاستيعاب والإدراك على حساب الرغبة الغريزية بالتحدث، دون الانطواء على معرفة تليق بمناسبة الحديث. واكتساب المعرفة وتحصيل علومها ليس دليلاً على الفهم أبداً. إن خير الكلام لا يستوي بقلته ودقته فحسب.
ينبغي أن تكون العبارة مقاربة بنسبة كبيرة للمعنى الداخلي الذي ننطوي عليه. يحصل أن تكون العبارة دقيقة ودالة ومنضبطة، لكنها بعيدة عن معاني القلب والسريرة.
فصورة المرء تتضح عن طريق اللسان وكلامه كما يقول سقراط: تحدث لكي أراك. وقيمة الإنسان، تعرف بالكلام، كما يقول علي بن أبي طالب، فإن المرء مخبوء تحت لسانه.
بل يزيد على ذلك: إن بلاء الإنسان من اللسان.
ومقولة أخرى، لعلي، توضح بشريته الخطّاءة، عندما تمنى أن يكون طول رقبته مثل طول رقبة البعير، لكي يكون اختيار الكلمة أكثر دقة وأقرب من الصواب.
واحدة من محاسن ما جاءت به نظرية المعرفة هي الموضوعية. فمن كان ينطوي على علم ومعرفة يقدرهما ويسعى لأن يجودهما، لن تدعه معرفته، لأن يلوك الكلام على هواه ومزاجه، بل إن نظرية المعرفة، عند استيعابها وهضمها والامتثال إلى أدبياتها، ستجعلك تقف على الكيفية والسببية والزمانية والماهية والمكانية، حين تنوي التطرق بالحديث والكلام في قضية ما.
بالإضافة إلى ذلك، فإن وضوح العبارة وانبساط بيانها ودقة هدفها لن تأتي إلا بعد مران وممارسة وخوض وتجريب وتصويب، إي إن بساطة البيان جاء من مراحل شديدة التعقيد، لم يكن من السهل الوصول إليها دون بذل جهد كبير، فضلا عن أن السكوت يختلف عن الصمت والأخير بدوره أيضا يختلف عن الإصغاء والإنصات كذلك. مع الصمت ستنضج الكلمة بما يكفي لكي ترتقي نحو الحبال الصوتية.
منذ أول صوت خرج، لكي يكون وسيلة من أجل التعبير عن مكامن الروح والقلب وإلى يومنا هذا، ما زالت اللغة هي وسيلة للتواصل فحسب. نعم، تعددت أشكال التواصل اللغوي واختلفت طرق الاتصال وهذا طبيعي ومدروك بحسب التغير المرتبط بالحركة والزمن وتبدل المجتمعات وتعددية مستوياتها.
يقول ماكس بيكارد في كتابه "عالم الصمت": "ليس هنالك عالم طبيعي أعظم من عالم الصّمت الطبيعي.
لا عالم للروح أعظم من عالم الروح اللغوي الذي صاغ عالم الصّمت الطبيعي. الصّمت هو عالم بحد ذاته. ومن عالم الصّمت هذا يتعلم الكلام ليصوغ نفسه إلى عالم. عالم الصّمت وعالم الكلام يناقض أحدهما الآخر. لهذا يكون الكلام نقيضاً للصمت، لكن ليس كعدو. إنه الجانب الآخر فقط المعاكس للصمت. يتمكن المرء أن يسمع الصّمت يرن خلال الكلام. الكلام الحقيقي هو في الواقع ليس إلا صدى الصّمت". ثمة نباهة في غاية الدقة، وصل إليها أبو الدرداء الأنصاري في التكوين المادي لشكل وطبيعة الأعضاء البشرية. يقول: انصف أذنيك، فقد جعل الله لك أذنين لتسمع أكثر مما تقول. وهنا، ينبغي الالتفات إلى العينين أيضاً. أي أن نسمع ونشاهد ومن ثم نتبصر ونتأمل.
وأوصى القرآن الكريم بالتدبر والتأمل والتفكر بصورة واضحة على حساب التحدث والإكثار منه. ثمة عدد لا يحصى من الأقوال والحكم والوصايا التي وضعت للصمت منزلة غنية ومهيبة، لكن أبسطها وأوضح بيانها "لا تتحدث بما لا تعرف" إن الصمت يقيك من الفشل والوقوع بمناطق الحرج والحفاظ على مهابتك دون التفريط، إن رغبت بالحديث، بمنزلتك. الصمت ثروة مجانية.
يقول فتغنشتابن "مهما قال لك شخصٌ أنه يتألم ومهما حاولت تفهّم حاله، فلن تدرك ما يعنيه إن لم تكن قد عانيت ألمًا مثل ألمه". يؤسس الفيلسوف النمساوي، بهذه العبارة، قاعدة عن التعبير، والمعنى، والقصد، والدلالة. إن ما بداخل المرء، من ألم أو معنى، لن تستطيع اللغة، مهما اتصفت بالإحاطة والشمولية، أن تصور المعنى أو الألم بالدقة المنشودة.