الهجوم الأوكراني المضاد سائر إلى الفشل

قضايا عربية ودولية 2023/08/02
...

 دانيال ديفز

 ترجمة: أنيس الصفار                                            

         

في شهر آذار الماضي صرح وزير الدفاع “لويد أوستن” بأن الهجوم الذي سيشنه الجيش الأوكراني في الربيع أمامه فرصة ممتازة لتحقيق النجاح بفضل الدعم الغربي الكبير. أما الجنرال “ريتشارد دانات” رئيس هيئة الأركان العامة البريطانية السابق فقد مضى  إلى أبعد من ذلك حين ذكر أن النجاح الذي سيحققه الهجوم الأوكراني قد تكون نتيجته إزاحة بوتين عن الكرملين.


                         

بيد أن واقع المعركة الدائرة أطاح بكل تلك التصورات المتفائلة وكشف بدلاً منها عن حقيقة قاسية، وهي أن من غير المرجح أن تتمكن أوكرانيا من إخراج روسيا عسكرياً من أراضيها بغض النظر عن أعداد الجنود الذين 

ستزج بهم في المعركة.

رغم ما في هذا القول من عدم استساغة في نظر داعمي ومؤيدي أوكرانيا فإن المسار الأصوب والأكثر حكمة أمام زيلنسكي الآن ربما يتمثل بالسعي  إلى تسوية عن طريق المفاوضات تحفظ لكييف أكبر قدر ممكن من حريتها وأراضيها. إنهاء الحرب الآن سوف يضع حداً لموت وإصابة عشرات الآلاف من المقاتلين الأوكرانيين الشجعان الأبطال .. رجال ونساء سوف تحتاج كييف إليهم من أجل إعادة بناء بلدهم متى ما وضعت الحرب أوزارها.

في ذلك الشهر نفسه، حين كان أوستن يعلن أن أمام أوكرانيا “فرصة كبيرة جداً” لدحر روسيا في هجوم كييف الربيعي، كتبنا على هذه الصفحات أن الركون  إلى مفهوم “حتمية خسارة روسيا الحرب” قد يتسبب في إصابة الغرب بالصدمة والبغتة إذا ما أخفق الهجوم الأوكراني في ضعضعة المواقع الروسية مادياً. قلنا هذا قبل شهر من بدء الهجوم وبينّا الأسباب العملية التي ستقضي على الهجوم الأوكراني بالفشل شبه المؤكد حتى في بلوغ أبسط المكاسب.

أوضحنا يومها أن القوات الأوكرانية سيتعين عليها، كي تنجح في عملياتها لقطع الجسر البري الروسي  إلى شبه جزيرة القرم، أن تهاجم مخترقة أحزمة متعددة من الدفاعات الروسية المعقدة وهي لا تمتلك سوى قدرات جوية هجومية محدودة ودفاعات محدودة أيضاً ضد الجو وكميات لا تكفي من قذائف المدفعية،  إلى جانب قوة مدرعة هجين مؤلفة من خليط غير متناغم ما بين القديم والحديث يقودها مجندون بلا خبرة قتالية وبعض الضباط والرجال الذين نالوا دورات تدريب أساسي على يد مدربين من حلف شمال الأطلسي.

هذه العوامل كلها تضافرت الآن، مثلما كان متوقعاً، فثلمت حدة هجوم كييف وأخفقت بعد ستة أسابيع من الجهود حتى في اختراق الحزام الأول من خطوط الدفاع الروسي الرئيسة.

حاول المسؤولون الأوكرانيون والغربيون التهوين من الأمر فراحوا يدعون أن هناك تقدماً يتحقق ولكنه “بطيء”، وهذا هو كل ما في الأمر، وعلى الجميع أن يصبروا وسيرون كيف تخرج القوات المسلحة الأوكرانية 

ظافرة بمرور الوقت. 

لكن بعض المحللين أخذوا يجادلون بأن أوكرانيا لم تحسن الأداء حين لجأت  إلى أسلوب عمليات الأسلحة المشتركة الذي تطبقه جيوش حلف الناتو ودربت عليه القوات الأوكرانية في وقت سابق من العام الحالي. لكن لا مفر من مواجهة الحقيقة القاسية والإقرار بها، وهي أن التقدم لا يزال بعيد المنال اليوم مثلما كان في البداية لذات الأسباب التي سبق التنبؤ بها.

بدءاً من 5 حزيران أو نحو ذلك شنت القوات المسلحة الأوكرانية هجومها الكبير في منطقة زابورجيا بنية اختراق المنطقة الروسية الآمنة قبالة خط التماس مباشرة، ومن بعد ذلك اختراق الحزام الأول من خط الدفاع الروسي الرئيس والاستيلاء على “توكماك” الواقعة على عمق يقارب 24 كيلومتراً خلف الخطوط، وفي الطريق اليها يتم الاستيلاء أيضاً على “ ميليتوبول” على ساحل بحر آزوف وبذلك يتحقق شطر القوات الروسية  إلى شطرين. 

جعلت القيادة الأوكرانية رأس الحربة في الهجوم المذكور لواءين مدرعين هما اللواءان الآليان 47 و33 اللذان تلقيا أعلى مستويات التدريب على يد حلف الناتو وتزودا بمعداته التي تتألق بينها بشكل خاص دبابات “ليوبارد 2” الألمانية ومركبات برادلي القتالية الأميركية.

منذ الانطلاقة الأولى تلقى اللواءان المذكوران هزائم ساحقة وفشلا في التقدم لأكثر من كيلومترات قليلة وخسرا خلال الأيام الأربعة الأولى أعداداً كبيرة من مدرعاتهما الحديثة، حتى بلغ مقدار ما خسرته أوكرانيا في الإسبوعين الأولين نسبة صاعقة تقارب 20 بالمئة من المدرعات الغربية التي حشدتها للهجوم وأكثر من 30 بالمئة 

من إجمالي قوتها الضاربة. 

أسباب الخسارة كانت مفهومة تماماً بحكم الظروف القائمة والمعروفة مسبقاً: حيث أنفقت روسيا أكثر من ستة أشهر في بناء أحزمة دفاعية معقدة وقويّة كما كانت تمتلك تفوقاً ملحوظاً في القوة الجوية والدفاع الجوي والمدفعية،  إلى جانب قدراتها الكبيرة في نشر حقول الألغام واستخدام القذائف الموجهة المضادة للدبابات والمدفعية الصاروخية والطائرات الهجومية المسيرة وفنون الحرب الإلكترونية (التي استخدمت في دحر الطائرات المسيرة الأوكرانية والصواريخ 

الموجهة عالية الدقة).

في محاولة لتجميل الموقف تحدث مسؤولون ومحللون غربيون  إلى صحيفة “واشنطن بوست” قبل أيام فزعموا أن الجيش الأوكراني كان يتبنى حتى الآن نهجاً قائماً على استنزاف العدو يهدف بدرجة كبيرة  إلى خلق نقاط ضعف في الخطوط الروسية. لكن هذا الكلام يفتقر  إلى الدقة، لإن القوات المسلحة الأوكرانية “لم تتبن” نهجاً قائماً على الاستنزاف بل غيرت تكتيكاتها  إلى أسلوب التقدم بمجاميع صغيرة من المشاة الراجلة لتحاول النفوذ عبر خطوط الخنادق الروسية الرئيسية من منطلق الاضطرار البحت. فالتقدم بالدروع ببساطة ما كان ليجدي، ولو كانت أوكرانيا قد أصرت على مواصلة الهجمات الواسعة بالقوات المدرعة لبقيت تحصد الموت والقتلى أفواجاً تلو أفواج.

تكمن مشكلة كييف في أن المصير الواقعي المحتم لهذا “النهج” هو الفشل. فالجغرافيا العسكرية لهذه المنطقة من أوكرانيا بأكملها تتميز بتضاريس مفتوحة منبسطة تتخللها هنا وهناك أشرطة ضيقة من الغابات. ونظراً لأن روسيا هي الطرف المسيطر على أجواء المنطقة،  إلى جانب امتلاكها قدرات واسعة في سلاح الطائرات المسيرة، فإن الجنود الأوكرانيين بمجرد تحركهم في العراء سوف يتعرضون فوراً للاستهداف بنيران المدفعية وقذائف الهاون. وإذا ما خرجت أية آليات مدرعة  إلى العراء المكشوف فإنها بالمثل سوف تتعرض للتدمير بسرعة. لذا كان أقصى ما يمكن للقوات المسلحة الأوكرانية أن تفعله هو التغلغل بأعداد صغيرة من المشاة  إلى حيث الخنادق التي تتمركز فيها القوات الروسية.

لم يكن مكمن المشكلة “بطء تقدم” قوات زيلينسكي، بل كان عجزها عن إحراز أي من أهدافها التكتيكية الأولية التي حددتها ابتداء وهي في طريقها  إلى ساحل آزوف .. كانت مشكلتها هي غياب المقومات القتالية الأساسية المطلوبة للانتصار  إلى حد بعيد، أو غيابها المطلق في بعض الحالات. هذه القوات تفتقر بشكل حاسم  إلى الموارد البشرية أو البنى التحتية المادية التي يتطلبها النجاح.

لا ننفي طبعاً إمكانية تعرض روسيا لانتكاسة سياسية مفاجئة في أي وقت من الأوقات، كما حدث في 1917، وعندئذ ستخرج أوكرانيا ظافرة رغم كل شيء، بَيْد أن هذا الاحتمال بعيد للغاية ولن يكون من الحكمة أن ترهن كييف آمالها المستقبلية بوقوع مثل هذا الحدث.

الاستمرار في المحاولة لن ينجم عنه سوى قتل المزيد من الجنود الأوكرانيين ودمار مزيد من المدن الأوكرانية، ودفع آمال التوصل  إلى السلام أبعد فأبعد. 

في السابع عشر من الشهر الحالي صرَّحت نائبة السكرتير الصحفي للبنتاغون “سابرينا سنغ” بأن أوكرانيا لديها ما وصفته بـ “القدرات القتالية اللازمة للنجاح على أرض المعركة”، وأن في حوزة الأوكرانيين كل ما يحتاجون إليه لنجاح هجومهم المضاد. مثل هذا التفاؤل يتناقض تماماً مع الوقائع الميدانية، وعلى الولايات المتحدة الكفّ عن إطلاق مثل هذه التصريحات المنافية للدقة بشكل صريح لتبدأ بدلاً منها ببذل مساعٍ دبلوماسية 

حقيقية تنهي هذه الحرب.

هناك كثيرون يتمنون لأوكرانيا الفوز ولروسيا الخسارة، وهذا أمر نتفهمه، لكن الإصرار على ملاحقة هذا الطموح لن يغير الحقائق على الأرض. مسار التحرك الذي يحمل لزيلينسكي الآن أفضل الآمال للخروج بأوكرانيا من هذه الحرب وهي بعد محتفظة بحضورها السياسي هو الموافقة على وقف إطلاق النار كي يمكن البدء بالمفاوضات.

حتى هذا لم يعد الآن ضمانة للنجاح، ولكن كلما تأخرت أوكرانيا في العمل على تحقيق هذه النتيجة تعاظمت احتمالات مواصلة روسيا بناء قوتها لشن هجوم من جانبها خلال الصيف الحالي أو الخريف الذي يليه قد ينجح في الاستيلاء حتى 

على خاركيف أو أوديسا. 

بعبارة أخرى إن الوضع المعلق بلا غالب أو مغلوب قد لا يكون أسوأ السيناريوهات التي تنتظر كييف، والآن هو الوقت المناسب لانتهاج مسار دبلوماسي ينهي هذه الحرب.



• عن موقع مجلة {رسبونسبل ستيتكرافت}