حسن روحاني من ستراتيجية السكوت الذكي إلى ملفات السياسة

قضايا عربية ودولية 2023/08/09
...

 جواد علي كسار
حسن روحاني هو الرئيس الإيراني الوحيد الذي هدد بالمحاكمة بتهمة هدر مصالح البلد وتهديد أمنها القومي، وجُمعت ضده الملفات والتواقيع؛ وانهال عليه النقد الأصولي الشديد الذي تجاوز حد هتك الحرمة إلى الاتهام بالخيانة، فاختار الصمت والتواري في بيته والاعتزال المطلق عن شؤون السياسة سنة وأكثر، زاد في الأجواء السلبية من حوله عدم اختياره عضواً في التركيبة الأخيرة لمجمع تشخيص مصلحة النظام أسوة بسلف آخر له هو الرئيس الأسبق محمد خاتمي، الذي حرم هو أيضاً من عضوية المجمع، في إشارة من أبسط مدلولاتها الظاهرية، تخلخل علاقته بالمرشد ومكتبه، وشبه إجماع أصولي على إدانة الخط العام لسياسات حكومته الداخلية والخارجية، وتحميله مسؤولية ما تعاني منه إيران اليوم من أزمات اقتصادية ومعيشية واجتماعية في الداخل، ومشكلات في السياسة الخارجية.
لكن ما لبث أن تغيّر المشهد بالكامل خلال الأشهر الأخيرة، وأصبح روحاني ملء العين والبصر، كسر أسوار العزلة وغادر أطواقها، وترك ستراتيجية الصمت الذكي، لم يكتفِ بدور المشاركة الفاعلة والحضور المؤثر في المشهد السياسي الإيراني، بل انتقل إلى مرحلة فتح الملفات الأساسية؛ فما الذي حصل وكيف؟ ولماذا غادر روحاني ستراتيجية الصمت الذكي، مستبدلاً إيّاها بفتح الملفات؟.

اللقاء مع المرشد
أمضى أواخر رئاسته بالكوابيس، وختمها بشدّ واضح مع المرشد الأعلى عندما تأخّر عن لقاء الوداع ربع ساعة، ولم يوزّع المرشد نسخاً من القرآن الكريم على أعضاء وزارته كما دأب مع أسلافه، في لمحة رمزية إلى عدم رضاه عن أداء حسن روحاني. لكن هذا ظاهر الحال، ومن يعتمد على الظواهر وحدها تتوه آراؤه في التحليل السياسي، ويضلّ عن المقاصد وتضطرب رؤيته.
السياسي بطبعه يميل إلى المناورة ويستعمل أدنى فرصة تتاح له. وهذا ما فعله روحاني، قاطعاً على الآخرين من خصوم ومنافسين فرحتهم، وهو يذكر أنه لا معنى لاعتزال السياسة، وأنه لم يفكر بالتقاعد السياسي قطّ، والدليل هو حضوره المستأنف المكثّف. وظّف روحاني إشارة إيجابية كبيرة، عندما دُعي للقاء المرشد مع كبار مسؤولي الدولة في ذكرى المولد النبوي الشريف، وقد سرّه الكرسي الذي حدّده له البروتوكول في الصفوف الأولى، وإن لم يحظَ بالجلوس عليه لتأخّره عن اللقاء دقائق، فجلس مكانه نائب الرئيس الحالي محمد مخبر، ولم يشأ أن يربك الحضور باستبدال المكان. بيدَ أنه عمد في المقابل إلى طلب لقاء خاص مع المرشد، تمّ فعلاً ودام لمدّة ساعة كاملة، وسط صدمة عنيفة هزّت صفوف الأصولية المتشدّدة، والرسمية الإيرانية وجميع نقاد روحاني وخصومه. لا أحد يعرف ما الذي دار بين الرجلين على مدار هذه الساعة، لكن لا ريب أنها مدّة طويلة، لاسيّما إذا أخذنا بنظر الاعتبار وقت المرشد وبرنامجه المزدحم المكثّف، إذ هو لا يكاد يعطي هذا الوقت الطويل نسبياً، للقاءات مشابهة مع كبار المسؤولين الفعليين، أضف إلى ذلك أن اللقاء يُعدّ استثنائياً في وقته، حتى بالقياس إلى سنّ المرشد ومزاجه ووضعه الصحي. بالتأكيد كان بمقدور روحاني أن يعلن عن ما دار في هذا اللقاء الطويل أو بعضه، بيدَ أنه لم يفعل لأن البروتوكول يفيد في مثل هذه الحالات؛ أن مكتب المرشد هو من يعلن ثمّ يتبعه الطرف الآخر، وقد اكتفى المكتب بالإعلان عن حصول اللقاء، مع ملاحظة ذات مغزى، تفيد بأنه تمّ بناءً على طلب من الرئيس روحاني نفسه.

حكومة الظلّ
يذهب البعض إلى أن شيئاً ما قد حصل في ذلك اللقاء، كان له تأثيره في قرار روحاني في استئناف نشاطه، ومغادرة ستراتيجية الصمت الذكي إلى ممارسة النشاط التدريجي المتصاعد، تمهيداً لحضور فاعل على الساحة الإيرانية. بديهي لا يمكن أن يكون لقاء روحاني بالمرشد هو السبب الوحيد، وليس من المنطقي إهمال بقية المؤثرات والعوامل والأسباب، لكن أيضاً لا يمكن إهمال اللقاء، وجملة ما بعث به روحاني من رسائل إلى المرشد مباشرةً، كما ذكر ذلك صراحة في استضافة خاصة للإعلاميين. ينصّ القانون الإيراني على تخصيص مكتب رسمي بعدد من الموظفين لكلّ رئيس تنتهي خدمته، تموله الحكومة. ولستُ أدري أسباب تلكؤ ذلك مع روحاني، رغم تدخل المرشد الأعلى بنفسه لتسهيل الأمر، وهو ما دفع بالرئيس السابق أن يمارس نشاطه من منزله، ولا علم لي ما إذا كان هذا الإشكال قد حلّ أم لا. وهذا ما يفسّر استعمال روحاني صالة منزله الخاص في الطابق الأرضي، مركزاً لنشاطه. من بين النشاطات هذه هو لقاءاته الدورية الثابتة مع فريقه في الحكم ومستشاريه ووزرائه عندما كان في السلطة، واستقبالهم فرادى وجماعة لاسيّما في المناسبات. وهذه اللقاءات الدورية والموسمية وإن كانت قد أثارت ولم تزل، خشية خصومه من الأصوليين المتشدّدين داخل الحكومة والبرلمان وخارجهما، إلا أنها لم تكن بذات شيء، عند مقارنتها بردود فعل صاخبة وعنيفة جداً، على شاكلةٍ أخرى من اللقاءات. فقد سجّلت الساحة عدّة لقاءات لروحاني فردية وجماعية مع ذوات بارزة ومؤثرة، منها الرئيس الأسبق محمد خاتمي، ورئيس البرلمان الأسبق ناطق نوري، ورئيس البرلمان السابق علي لاريجاني، والقيادي الأصولي المصنّف معتدلاً والمقرّب من ناطق نوري، محمد رضا باهونر، والرمز الديني والسياسي حسن الخميني حفيد السيد الخميني، والمعاون السابق لرئيس الجمهورية اسحاق جهانگيري، ووزير الخارجية السابق محمد جواد ظريف، وأسماء أُخر من هذا الوزن. على سبيل المثال، كان لقاء الأربعة هو أشدّ ما أثار حفيظة الأصوليين المتشدّدين؛ حينما دعا حسن الخميني، حسن روحاني للحضور إلى جماران، مستضيفاً في الاجتماع نفسه محمد خاتمي وعلي أكبر ناطق نوري، وتمّ اللقاء فعلاً بحضور اسحاق جهانگيري أيضاً. كذلك أثار استقبال روحاني في صالة بيته لمحمد رضا باهونر وعلي لاريجاني ردود فعل عنيفة، زاد من حدّتها وما ترتّب عليها من تحليلات، أنها تواشجت مع دعوة تبنّاها هذه المرّة ناطق نوري، بحضور علي لاريجاني ومحمد رضا باهونر واسحاق جهانگيري، ورئيس حزب كوادر البناء (كارگزاران سازندگي) نسيب هاشمي رفسنجاني، حسين مرعشي؛ لتصل الضجّة إلى ذروتها بخطوة سياسية ذكية قام بها قبل أشهر قليلة، رئيس البرلمان الحالي الجنرال محمد باقر قاليباف، باستضافة ثلاثة من أسلافه من رؤساء البرلمان، هم ناطق نوري وحدّاد عادل وعلي لاريجاني، في إيحاء بل مؤشر كبير، على طبيعة الاختلافات داخل الجبهة الأصولية، وغياب الوحدة والانسجام بين صفوفها. ما يرتبط بروحاني، فإن الأصولية المتشدّدة تعبّر في ردود فعلها، من خشية في أن يتحوّل روحاني إلى محور معارضة موازٍ لرئيسي، عبر تكوين حكومة ظلّ منافسة للرئيس الفعلي، كذلك هي تخاف كثيراً من ضرب وحدة التيار الأصولي المتشدّد، وتحويله إلى أشتات، مقدّمةً لتغيير موازين القوى في قمة النظام، عبر الانتخابات الثلاث القادمة؛ البرلمانية والرئاسية وفي مجلس خبراء القيادة (خبرگان رهبرى)، إذ يعتقد التيار الأصولي المهيمن، أن حكومة الظلّ يمكن أن تعبّر عن بؤرة استقطاب عضوية، تجمع في تكوينها تيار عريض من الإصلاحيين والأصوليين التقليديين والمعتدلين ضدّ الأصولية المتطرّفة، التي تبسط هيمنتها على البرلمان والرئاسة وبقية قوى الدولة ومرافقها.

الجبهة الموازية
لم تقتصر عودة روحاني إلى الواجهة على اللقاءات أعلاه وحدها، بل ثمّ إلى جوارها فعاليات أُخر، ربما كان أهمّها افتتاح روحاني لموقع رسمي باسمه، راح يغطي نشاطاته المختلفة ولقاءاته وما يتصل به، بالإضافة إلى ما يصدر عنه من مواقف وتعليقات على الأوضاع والمشكلات. بيدَ أن الأهمّ هي الجبهة الموازية التي فُتحت بالتزامن مع تقدّم روحاني نفسه نحو الواجهة. ففيما سبق كان ينهض بمهمّة الدفاع عن منهج روحاني ومساره السياسي ومواقف حكومته وما كان يوجّه له من نقد؛ تيار عريض من الصحافة الإصلاحية، قد اصطفّت معها مواقع وقنوات خبرية بارزة ومؤثّرة، ينتمي بعضها إلى التيار الأصولي نفسه الذي يُصنّف روحاني عليه، لكن بخطه المعتدل.
بيدَ أن ما حصل الآن هو كشف تفصيلي عن خفايا وكواليس ومعلومات من الدرجة الأولى، ترتبط بإدارة روحاني للدولة خلال ثمان سنوات من حكمه. ومن راح يكشف المعلومات ويفتح الملفات بجرأة ووضوح وبالأرقام والإحصاءات، ليس الصحافة أو المواقع والقنوات الخبرية والتحليلية، وإنما رجال بارزون في فريق روحاني، يصنفون في الصفّ الأول أيام حكمه. فالرئاسة في إيران منذ التعديلات الدستورية عام 1989م، ليست بشخص الرئيس وحده على أهميته، بل أيضاً بأركان يؤدّي من خلالها دوره، أبرزها موقع النائب الأول ومساعد الرئيس الذي يساوي بروتوكولياً رئيس الوزراء، بالإضافة إلى مدير مكتب الرئيس. وما حصل على التوالي، أن أركان فريق روحاني راحوا يفتحون ملفات الحكم بالإحصاءات والأرقام والمعلومات والوثائق، من خلال محاورات مطولة، ومحاضرات وإطلالات مكثّفة ومكرّرة على الرأي العام، في جهدٍ موازٍ عاضد لجهد الرئيس روحاني نفسه، ومقوٍ لإطلالته المستأنفة على الساحة، كما فعل حتى هذه اللحظة مدير مكتبه محمود واعظي، والمعاون الأول إسحاق جهانگيري، ورئيس البنك المركزي عبد الناصر همتي، ووزير الخارجية محمد جواد ظريف، ورئيس مؤسّسة الطاقة الذرية علي أكبر صالحي، وكبير المفاوضين عباس عرقچي، وغيرهم. لم يكن عمل هؤلاء اعتباطياً، بل جاء في نطاق عملية تكاملية منظمة لمخاطبة الرأي العام، وهو يضع كواليس أبرز القضايا الجدلية وخفاياها، من قبيل الملف النووي، والوضع الاقتصادي، والدولار والعملة الوطنية، وسياسات الداخل، والسياسة الخارجية، والعلاقة مع أميركا وأوروبا، ومع الصين وروسيا، وملف السعودية والعراق وسوريا، ما يشعرنا بأننا أمام فعلٍ منظم وهجمة مضادّة داحضة، ضدّ الإعلام الأصولي المتشدّد والرسمي، في ما يذهب إليه من أن تفاقم مشكلات إيران الآن، والإخفاقات المتواصلة لحكومة رئيسي في ملفات السياسة الداخلية والخارجية، ما هو إلا بتأثير تركة روحاني، وأنه لولا هذه التركة السيئة الموروثة من عهد روحاني، لكانت إيران اليوم في ظلّ الإدارة الحالية في وضع إيجابي آخر، يختلف تمام الاختلاف عن الوضع الحاضر.

أسرار الشيخ
من خصائص السياسة في إيران هو التوثيق، ومن الأوراق الرابحة بيد السياسي هي المذكرات. وربما هذا ما يفسّر لنا الكثرة الكبيرة المشهودة في كتب المذكرات وموسوعات التوثيق، إذ يكفي أن نستعيد مثالاً واحداً من وزير الخارجية السابق ظريف والفريق النووي، عندما أصدروا موسوعة توثيقية من ستة أجزاء ضخمة، عن قصة النووي في عهدهم، يحكي شيء من خفايا الملف ووثائقه، ويدوّن جهدهم فيه. سبق لروحاني أن أصدر مذكراته الخاصة، كما أصدر بعمل ضخم قصته مع الملف النووي يوم كان في مجلس الأمن القومي، ومجمل أوراق السياسة الخارجية، لكن بقي الفراغ يؤشر إلى غياب مذكراته كرئيس للجمهورية. لم يدم انتظارنا طويلاً، فقد اتصل الرئيس أو مكتبه بالصحفي والكاتب الإصلاحي المعروف محمد قوچاني، واقترح عليه مشروع كتاب عن المائة يوم الأولى من رئاسته. انتهى الاقتراح عملياً إلى تجاوب روحاني مع الهيكل الذي وضعه قوچاني، وتمت ستة لقاءات مع روحاني حضرها كبار العاملين معه، بعضها أواخر رئاسته وبعضها الآخر بعد انتهائها، تمخّضت عن إصدار الكتاب الأول بقلم قوچاني وبأسلوب الحكاية والسرد، ولم يبادر قوچاني إلى نشر النص بما تضمّنه من معلومات واسعة كثيرٌ منها تفاصيل وخفايا، إلا بعد أن مرّ على روحاني ووثّق بقلمه ما نُسب إليه جرحاً وتعديلاً. الفصل الأول الذي يحدّثنا عن طريق روحاني إلى الرئاسة عام 2013م، غزير بالمعلومات التفصيلية، وكيف اقترح روحاني أن يكون مرشح الرئاسة ناطق نوري، لكن نوري اقترح أن يكون المرشح هو رفسنجاني، الذي اقترح بدوره أن يكون روحاني هو مرشحهم! كان روحاني يعيش ضرباً من الإحباط، ولا يترقّب من هم حوله إمكانية فوزه، لكن مناماً رآه أعطاه أملاً وطاقة للتقدّم، لولا أن رفسنجاني أربك المعادلة بدخوله على خطّ الترشيح للرئاسة في عصر اليوم الأخير من أيام الترشيح، من دون إخبار المرشد أو التنسيق معه أو مع روحاني، معتذراً للجميع بأنه قد تجاوب مع رغبة شديدة لبعض مرجعيات حاضرة قم في ذلك، وأنه استخار الله فجاءت الخيرة جيدة، فأقدم!. ازداد الموقف ارتباكاً بعد أن رفض مجلس خبراء الدستور أهلية رفسنجاني، ليدخل روحاني مضمار التنافس الصعب، داخل صفوف الجبهة الأصولية نفسها، التي صار لها ستة مرشحين هم الجنرال محسن رضائي والجنرال قاليباف، ومن السياسيين علي أكبر ولايتي وحداد عادل وسعيد جليلي، ومن الإصلاحيين محمد رضا عارف. يذكر الكتاب تفاصيل ميزان القوى والصراعات والتسويات بين المرشحين، إلى أن حصلت المفاجأة، وفاز روحاني من المرحلة الأولى، بعد أن تجاوزت حصته (18) مليون صوتاً، وحقّق نسبة الفوز المتمثلة بمعادلة: (50 + 1).

الخلاصة
تنطوي المعلومات التي كشفها روحاني على دلالات سياسية وحزبية وانتمائية، تستبطن قدراً غير قليل من خلفيات المواقف والقناعات مما يدور في إيران، وكيف تمارس السياسة في هذا البلد. لقد قطع روحاني شوطاً قاسياً بعد انتهاء رئاسته، أخذ به من التهديد بالمحاكمة، إلى الصمت أو ستراتيجية الصمت الذكي، إلى صدمة عدم عضويته في مجلس مصلحة النظام، إلى الحضور في الصفوف الأولى عند المرشد، والأهمّ منه لقاء الساعة الكاملة مع المرشد؛ هذا اللقاء الذي فاجأ جميع خصومه بل صدمهم وأوقع ما بأيديهم. وهو اليوم في قلب المشهد السياسي، يمارس دوره وإيران متجهة إلى انتخابات تصحيح المسار وكسر الاحتكار الأصولي المتطرّف برلمانياً ورئاسياً، وإعادة شدّ الجموع إلى هموم السياسة وصناديق الاقتراع؛ على الأرجح بتنسيق مع المرشد نفسه أو برضاً منه.