غادي نثر

الصفحة الاخيرة 2023/08/13
...

محمد غازي الأخرس

أثارت مقالتي (تختة الفقير) الكثير من ردود الأفعال في صفحتي على الفيسبوك، وأضاف لها الأصدقاء ما أضافوا. صححوا وقيموا، وأولوا وفسروا، فكنت بذلك كقادح شرارة، أو مثل مطلق إطلاقة لبدء سباق، ذلك أن عالم مخيال الفقراء واسع رحيب، يحتمل الإضافة الدائمة لتعدد التجارب وضخامة الخزين الثقافي. إحدى القارئات مثلاً أشارت إشارة رائعة تحايث هذه الفكرة فقالت إن كنايات الفقر تبدو أكثر من كنايات الغنى، فالفقر ملازم لأكثر الناس، وهذا جد صحيح، إذ غالبية المجتمعات تتكون من شريحة المساكين خصوصاً في الدول الشبيهة بالعراق. وأظن أن فكرة أخرى غابت عن ذهن تلك القارئة وهو أن غنى مخيال الفقر يتأتى من ألم الفقر وعمق تأثيره في النفس، وهذا يحرض المرء على التماس البلاغة للتنفيس عنه وايصال آثاره للآخرين. من هنا تحديداً يركن المكاريد إلى (الحسجة)، واستثمار الفنون الأدائية واللغوية للتعبير عن أزماتهم.
يتخطر لي بهذا الصدد رأي للناقد الثقافي هنري لويس جيمس حول مجازية الأدب الزنجي الطاغية، هرباً من التهميش والاضطهاد، فيقول "لقد كان السود دائماً سادة المجاز، يقولون شيئاً ليعنوا به شيئاً آخر تماماً، وهذا هو الجوهر في بقائهم وسط الثقافات الغربية القاهرة لهم". لربما ينطبق هذا الرأي إلى درجة كبيرة على "حسجة" الفقراء وثراء مخيالهم.  
بالعودة إلى تعليقات الأصدقاء، فإن تصويباتهم جاءت جوهرية. من ذلك تفسير صديقنا المسرحي أحمد الصالح لكناية: كاعد على الرنكات، بإحالتها إلى نزع إطارات السيارة وتركها مستقرة على "السبرنك" الذي يحتوي "الدبل"، وترادف هذه الكناية قولهم : كاعد على الحديدة. وأتصور أن مثل هذه الكنايات يصح وصفها بالمولدة بلغة التراثيين العرب، أي أنها استحدثت بسبب تغير الحياة وظروف الناس، فكان أن اختلق الذهن الشعبي كنايات مستلهمة من آلات وظواهر جديدة. ترانا نقول اليوم: طاكه جوه رجلينا، بمعنى أننا لم نعد نفاجأ بشيء، وواضح أن الكناية تحيل إلى فترة التفجيرات الإرهابية. بعيداً عن هذه "المشيجيخة"، ذكر المعلقون على مقالة "تختة الفقير" جملة من الكنايات الجميلة الدائرة في الحقل الدلالي نفسه، فهذا هو الأستاذ المؤرخ ابراهيم العلاف يذكر أن أهل الموصل يصفون الفقير بالقول إن: تختوا ما تتحمل، ثم ها هو أستاذنا الناقد الكبير باسم عبد الحميد حمودي يذكر بأن أهل البصرة يصفون الفقير بالـ"متمذهب"، بينما يصفه الجنوبيون بأنه "مكوطر"، بالكاف المعجمة، أي أنه صار  مثل القنطرة التي يعبرون عليها ولا تملك من أمرها شيئاً. أما القاص زعيم الطائي، فيذكر أنه كان يسمع من يقول عمن لا يملك القدرة على الحركة المادية والمعنوية أنه " صاير دعو"، أو "مدعدع"، وأتصور أن أصل الكناية يعود إلى معنى التداعي أي السقوط. وتفسيراً لقولهم عن الفقير أنه "غادي نثر"، يحيل صديقنا زعيم الطائي مفردة "النثر" إلى القطن الذي يحشى به الفراش "الدوشك"، أو اللحاف المتهالك من القدم، فمثل هذا الفراش سرعان ما يتناثر من أول ثقب يصيبه، والحال أننا جميعاً رأينا الحالة في بيوتنا، ولطالما كانت أمهاتنا وزوجاتنا يسارعن إلى النداف لتجديد عمر الأفرشة واللحفان، ولنا عودة.