نزاهة بنصف دينار

الصفحة الاخيرة 2023/08/14
...

عبد الهادي مهودر



لا أعرفه، سمعت صوته فقط في مقطع فيديو نشره أحد الأصدقاء على صفحته الشخصية في (الفيسبوك) وهو يتصل للاستفتاء عن كيفية تسديد ما بذمته من دين، كان عامل البناء واسمه محمد يسأل السيد رشيد الحسيني عن كيفية تسديد دينه لبائع مياه الشرب (الآرو)، الذي ملأ له قنينة الماء خلال العمل إلى حين تقاضيه أجره اليومي، لكن بائع الماء ذهب ولم يعد، أما مقدار المبلغ فهو (500 دينار) أي أن هذا الشاب الفقير قلق لأن في ذمته نصف دينار عراقي فقط. وذهبت أنا بخيالي لتصوّر هيئة هذا الشاب، الذي أنفق على الاتصال المباشر أضعاف مبلغ دينه(الثقيل)، وقلت قطعاً أنه تعلّم من أسرته ألا يدخل في جوف أفرادها لقمة من مالٍ حرام، أما البائع الذي لم يعد ولم يفكر بالعودة لأخذ حقه، فلا شك أنه قارن بين براءة هذا الشاب الذي ألحّ عليه بالعودة وبين الذين يسرقون الناس والمال العام جهاراً نهاراً ويلوذون بالفرار، وهذا الشاب مثل ذاك البائع، استثقل البقاء مديناً والبائع زهد بحقه أمام معاناة وصبر (العمالة) تحت أشعة الشمس الحارقة، وأمام ما يطرق سمعه كل يوم من أخبار وبيانات هيئة النزاهة الاتحادية عن الاختلاسات واختفاء الترليونات وسرقة القرن والأمانات البالغة 3.7 تريليون دينار عراقي أي (2.5 مليار دولار)، ولعله قال في نفسه عن أي نصف دينار تتحدث حبيبي (أبو جاسم) وهذه الترليونات تتناطح، والترليون ينطح الترليون، وربما لذلك أطلقوا عليها تسمية سرقة القرن وليس لأنها أكبر سرقات القرن الحالي.

وإذا كنا نطلب من رئيس هيئة النزاهة الاتحادية شيئاً واحداً فهو إصدار بيان واحد في الأقل ولمرة واحدة في الشهر أو السنة أو القرن، عن النصف الآخر من الكأس إن وجد، وهو موجود حتماً، حتى نقول إن الدنيا ما زالت بخير، و في مؤسساتنا ودوائرنا ألف (أبو جاسم) وألف (أم جاسم) وإن خليت قلبت، وإن في نهاية النفق بصيص ضوء وبارقة أمل، وإن النزاهة لا تختص بقضايا السراق والمختلسين فقط، وإنما تعنى بكشف النقاب عن أسماء وعناوين النزيهين أيضاً، (ولا يكون المحسن والمسيء عندك بمنزلة سواء، فإن في ذلك تزهيداً لأهل الإحسان في الإحسان، وتدريباً لأهل الإساءة على الإساءة) وأبسط حق للنزيه أن ُيذكر و ُيشكر، ويشتهر بالخير مثلما اشتهر غيره بالشر وخيانة الأمانة والملاحقة القضائية.

وأخيراً، عزيزي الشاب أبا جاسم، إذا كنت جاداً وصادقاً، فهنيئاً لك على هذه التربية والخلق الرفيع وعلى هذا القلق المشروع من ارتكاب صغائر الأمور، (فمعظم النار من مستصغر الشررِ) ويجب أن تعلم أن السراق الكبار لم يولدوا كباراً فجأة، بل تدرّجوا في السلّم، من سرقة أرباع وأنصاف الدنانير صعوداً إلى الملايين والترليونات، ولم يكونوا نزيهين من قبل بل كانوا ممثلين جيدين، وإذا كنت غير جاد، فأنت ممثل جيد مثلهم، والسينما العراقية بخير.