متطلبات اللقمة

الصفحة الاخيرة 2023/08/15
...

حسن العاني

منذ أن (تعرفتُ) أنا وأبناء جيلي – أصبحنا الآن مرشحين لنيل شهادة الوفاة بامتياز– على المقاهي البغدادية عامة، ومقاهي الطرف خاصة، قبل أن تحتلها الأراجيل الحديثة وسحب الدخان المضاد للأوكسجين والتنفس الطبيعي، هذا غير التطور الأهم، وهو دخول المرأة لهذه الأماكن – ما كان بمقدورها الدخول لولا الدعم اللوجستي من القوى التي تطلق على نفسها: التقدمية واليسارية والمدنية والديمقراطية – التي احتكرها الرجال منذ ثلاثة آلاف سنة قبل الميلاد، بحكم السلطة (الذكورية) التي يتمتعون بها.
لا خلاف على أن السلطة (الأنوثية) الحديثة، أنهت هيبة الشوارب، وعضلات الرجال المفتولة، وجبروت هيمنتهم الفارغة، بعد أن ثبت بالدليل القاطع أن شواربهم وعضلاتهم وجبروتهم، لا تعدو عن كونها (محتويات هابطة)، وهكذا استطاعت المرأة نيل حقوقها وزيادة، أقصد بالزيادة هنا، أن المرأة لم تنل حقوق المساواة فقط ، بل تجاوزتها إلى نسبة بلغت 51 % من الحقوق ، مقابل 49 % للرجال.
أقول منذ بدايات ذلك التعرف الذي يعود إلى قرابة ستين سنة انسلخت من أعمارنا، كان المقهى هو المكان الأوفر حظاً للقاء الأصدقاء وهذا لا يعني أن الرواد جميعهم أصدقاء، ولكن ما بين الجميع معرفة واحترام متبادل يفرضه اللقاء المتواصل عبر زمن طويل.
بناء على هذه الحقائق يجب استذكار قضية تتعلق بطقوس مقاهينا القديمة – قبل غزو الأراجيل والنسوان – وهي وجود شخص وربما أكثر في بعض المقاهي  يتميز بمواصفات معينة، أو سلوك ينفرد به بحيث يجعله لافتاً للنظر ومحط اهتمام الآخرين به، إيجاباً أو سلباً، من بين هؤلاء الأشخاص المتفردين – على قلتهم – شخص ما زالت ذاكرتي تحتفظ له بالكثير من المواقف، كنا من باب ردة الفعل، ومن باب خيبتنا السياسية، نطلق عليه لقب الذكي، لأنه أمضى حياته بعيداً عن السياسة ولغاويها، وهمه الوحيد في الدنيا لقمة العيش التي فرضت ظلالها على حياته، كان يقول [أفضل شيء للمواطن هو أن يفهم السلطة ويحسن التعامل معها بحيث لا يكون معها ولا ضدها]، ومع أن مثل هذا الكلام ينم عن حنكة سياسية تصدر عن رجل يمقت السياسة، إلا أن هذا هو ما دأب عليه صاحبنا، وتلك غرابة ما بعدها غرابة، على أية حال ، يوم علا نجم الشيوعيين بعد 1958 راح يرتدي رباطاً أحمر ويعلق حمامة سلام على صدره ويرفع صورة الزعيم على واجهة منزله. ويوم وصلت السلطة إلى البعثيين ارتدى الزيتوني وراح يوقد الشموع في 28 نيسان، وبعد سقوط النظام ارتدى القبعة الأميركية وهكذا كان يتكيف مع المرحلة مع أنه لم يكن شيوعياً ولابعثياً ولاصدامياً ولا أميركياً، ومنذ 2003 أطلق لحيته وصار يقول (بسم الله الرحمن الرحيم) حتى وهو يسرق قنينة غاز من جاره.