جواد علي كسار
منعاً للالتباس ولسوء الفهم مسبقاً، أسجّل أن التفكيك مشترك لفظي، ومن ثمّ فهو لفظ واحد في هيئته العامة، ينصرف إلى معانٍ عدة بحسب القرائن والاستعمال، مثله كمثل لفظ «العين»، فقد يُطلق ويراد منه عين الإنسان، أو عين ماء زلال، أو عين حمئة ملوّثة، أو «عين الأسد» كدالة على مكان، وهكذا.
بهذه المقدمة يمتد التفكيك من العقل إلى البيئة، وما أقصده بهذه السطور هو الثاني. إجمالاً، التفكيك في العقل وكممارسة عقلية معرفية، نعمة يعرفها من ذاق فعل العقل وممارسته، وهو في البيئة غنى وتدبير وذوق وثروة.
كانت المرّة الأولى التي عرفت فيها التفكيك كدالة للثروة، وكمؤشر على ممارسة اجتماعية عامة خاضعة لضوابط السلطة، عندما كنتُ في رحلة الحج إلى مكة المكرمة، موسم سنة 1406هـ. ففي حينها لمستُ على نحوٍ واضح تفكيك بلدية المدينة المنورة للنفايات إلى ثلاث حاويات منفصلة؛ واحدة للزجاجيات والمواد الحادة الجارحة، والثانية للمواد الجافة وهي الأوراق والصحف والمجلات والكارتون، والثالثة لبقية صنوف النفايات.
حصل ذلك في مدن مقدسة هي مكة والمدينة، وفي موسم ديني جماعي، فما الذي يمنع من تكراره في مدننا ومناسباتنا الدينية الجماعية؟.
نحن الآن على مشارف أن نكون في قلب زيارة الأربعين، بطابعها التحشيدي المليوني، ومسألة النفايات في هذه الكتلة المليونية المتكررة في كلّ عام، تكتسب أبعاداً مركبة، اقتصادية وصحية وبيئية وذوقية، والأهم من ذلك شرعية، خاصة ما يرتبط بمظاهر الإسراف والتبذير الكبيرة في الأطعمة والأشربة.
لن أذهب بعيداً وأمامي معايير وضوابط من الإسلام هي من صميم هذا الدين، إذ نقرأ في الحديث الشريف: «إن السرف أمر يبغضه الله، حتى طرحك النواة فإنها تصلح للشيء، وحتى صبّك فضل شرابك». وكذلك ما يدلّ على الآثار الوضعية لهدر الثروة على مستوى المجتمع والدولة، كما في قول النبي صلى الله عليه وآله: «من بذّر أفقره الله» وقول أمير المؤمنين: «كثرة السرف تدمّر»، وعلى رأس ذلك جميعاً قول الله سبحانه: ﴿إِنَّ المُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ﴾ (الإسراء: 27).
ما ثمة مجاملة في ضوابط دين الله وأحكامه، ولا يُطاع الله من حيث يُعصى، ولستُ أدري حقيقةً لماذا لا يتفق الزائر والباذل وخادم الإمام سيد الشهداء، على مثل هذه المقاصد الدينية العليا؟
ولماذا لا يُصار إلى حث الهيئات على تفكيك النفايات جميعاً؛ وايلاء الأطعمة والأشربة عناية خاصة، بل تشجيعهم على تأسيس معامل للفرز والتدوير، وذلك من خلال المقاصد والأحكام الدينية نفسها، التي تحث على الزيارة والبذل.