عن الأغم والأنزع

الصفحة الاخيرة 2023/08/27
...

محمد غازي الأخرس

ويقول العراقي تأسفاً إذا فوّت مكرمة كان يمكن أن يصيبها : صابتني الغمامية. تراه وقد طرق أحدهم بابه مقترضاً، فخانته الشجاعة وردّه مع قدرته على إجابته، حينئذ سيقول نادماً: صابتني الغمامية.
ومن هذه الغمامية صاغوا وصف التافه بالأغيم، أو الأغم، وتجمع على غمان، وعن هؤلاء، صيغت كناية لطيفة هي : ولية غمان، إذا تولت زمرة منهم شجاعاً وغلبوه بكثرتهم. ولا أدري، من ثم، إن كانوا قد اشتقوا فعل (الغمّة) من الغمامية أيضاً، وهو أن توجه لأحدهم باطن كفك (تغمه) وتقول له : أمداك، أو همداك.
وأصل العبارة منحوت من "همّ دهاك"، ومنها اشتقوا عبارات أخرى سارت مسار الكنايات كقولنا في التأسف من تبدل الزمن وجوره علينا: أمده الوكت، وأمده الحظ المصخم، أو قول المرء مع "غم" جبهته بكفه: همداني. من ذلك أيضاً يصف الجنوبي المشكلة التي لا يطول حلها بأنها "طلابة غمان"، لأن الغمان لا يتميزون برجاحة العقل فتكون طلابتهم طويلة ومعقدة، في حين يحل الأخيار أعظم المشكلات بـ"فرة فنجان".
بالعودة إلى مفردة الأغم، يتداول العرب كناية تقول: فلان طويل الوساد، أغم القفا. وطويل الوساد تعني طويل العنق، وكل ذي عنق طويل أقرب إلى البلاهة والبلادة عندهم، شأنه شأن الطويل بإفراط. لقد ورثنا هذه النظرة عنهم فقلنا: الطول طول النخلة والعقل عقل الصخلة. ويرجع مصدر "أغمّ القفا" إلى الغمم، وهو غزارة الشعر عند الجبهة حد أن تضيق بسببه. ويتشاءم العرب من ذلك ويعدونه إشارة على البلادة، وورد هذا في شعرهم حيث يقول أحدهم موصياً زوجته: فلا تنكحي إن فرَّقَ الدّهر بيننا.. أغمَّ القفا والوجه ليس بأنزعا.  والأنزع نقيض الأغم، إذ ينحسر مقدَّم شعَر الرأس عن جانبي الجبهة فتبدو الأخيرة صلعاء، وهذه خصيصة شكلية ممدوحة عند العرب بوصفها من إمارات رجاحة العقل، بل أظنها أقرب ما تكون إلى عنصر نسقي ثابت، فهم يميلون عموماً إلى الإبانة والبروز في كل شيء، من الجبين العالي إلى الأنف الشامخ، ومن الصوت الجهوري إلى الفم الأشدق. من المهم الانتباه إلى أن صفة الأنزع هذه عرفت عن الإمام علي (ع) ومدح بها، وإنني لأتذكر أول ما سمعت مقتل أبي مخنف بصوت عبد الزهراء الكعبي كيف استوقفتني عبارة قالها عمر بن سعد محرضاً الجمع على قتل الحسين (ع)، كان يصرخ بهم: هذا ابن الأنزع البطين، هذا ابن قتّال العرب، احملوا عليه من كل جانب. كنت فتياً حينها ولم أفهم المقصود بالأنزع البطين، لكنني علمت لاحقاً أن الأنزع هو منزوع الشعر عن الجبين، والبطين ذو الكرش. فيما بعد، أوّل الوصف بغير ما يعني ظاهره اللغوي، فقالوا إن الأنزع كناية عن امتناع الشرك فيه بينما البطين تدل على امتلاء جوفه بالعلم.
ورحم الله الجواهري الذي استخدم الكنايتين في عينيته الخالدة فقال للحسين (ع): فيا ابن البطين بلا بطنة.. ويا ابن الفتى الحاسر الأنزع، ويا غصن هاشم لم ينفتح .. بأزهر منك ولم يفرع.. ويا واصلاً من نشيد الخلود.. ختام القصيدة بالمطلع، إلى آخر القصيدة العصماء، التي نظمها أبو فرات في الثائر الأعظم، الثائر الذي كلّ من نصره كان شجاعاً، وكلّ من تخلف عنه "صابته الغمامية".