الشرطي النبيل

الصفحة الاخيرة 2023/09/19
...

حسن العاني



 العراقي المسترخي تحت العلم البريطاني مثلاً، كان وما زال محمياً بقوانين الإقامة ومكاسبها، مثل جمال المدن المتحضرة، وحلاوة النسوان المتحررات، ولكن في المقدمة منها نعمة الحرية التي جعلتهم يكتبون بالقلم من دون محاذير، فلا بعثيون ولا بدلات زيتونية ولا زوار آخر الليل ولا زوار أول النهار ولا حمايات مسؤولين، وفوق هذا كله، كانت الفضائيات ووكالات الأنباء تلهث وراءهم وتتعامل معهم على أنهم يمثلون رأي الشارع العراقي، ويعبّرون عن ضمير الشعب، حتى أصبحوا (وحدهم) النجوم المتلألئة في سماء الإعلام، مع أنَّ أغلبهم لا يدري أنَّ شارع النهر هجرته النساء، وأنَّ الفساد المالي بخلاف بلدان العالم، يبدأ من الأعلى إلى الأسفل!! أما كتّاب (الداخل) الذين وفر لهم سقوط النظام الدكتاتوري، مساحة مفتوحة من الحرية وحرية التعبير، لم تراود أحلامهم، فإنَّ الطريق ما زالت أمامهم محاطة بالأسلاك الشائكة والعين الحمراء، على الرغم من المظاهر الديمقراطية البراقة، وأحلامهم الوردية سرعان ما أخذت بالتبخر شيئاً فشيئاً بسبب حماوة الجو والدعاوى القضائية التي تطالبهم بالمليارات، ولهذا لا يصح أن نوبخهم أو نلومهم أو نعاتبهم، إذا اختار كل واحد منهم شرطياً مهنياً محترفاً، وبنى له قصراً في رأسه، يسكنه مجاناً، لكي يراقب أفكاره وأصابعه ونواياه، ويحفظ له حياته، وديمومة دورته الدموية، لو تجرأ على قول الحقيقة!! 

 الشرطي الاختياري- كما يرى فقهاء التحليل السياسي- هو أنبل اختراع ابتكره كتّاب الداخل منذ عام 1958، ووضعوا قوانينه الصارمة وثوابته منذ عام 1968، وبلغوا به القمة منذ عام 2003، فإذا أنجز الصحفي العراقي موضوعاً عن المداهمات والسجون وحقوق الإنسان، أمره الشرطي أن يمزق أوراقه في الحال، قبل أن تشمله المادة (4) بتهمة جاهزة، وإذا كتب عن مساوئ النظام السابق ومقابره الجماعية، وعن الإرهابيين والتكفيريين وجرائمهم التي يندى لها الضمير الإنساني، دعاه إلى إخفاء كتاباته، لأنه سيكون صيداً سهلاً للخطف أو الاغتيال من دون أن يحميه أحد، وإذا تناول ظاهرة (الحجاب الإجباري) خوفاً، والعودة بالمرأة إلى القرن التاسع عشر، حذره من الخوض في قضية، قد تؤدي إلى اتهامه بالزندقة وإذا امتدح خطوة إيجابية أقدمت عليها الحكومة مضطرة تحت الضغط الجماهيري، تولى الشرطي بنفسه تمزيق الأوراق، لأنَّ (صاحبه) سيخضع لقانون الاجتثاث وتعديلاته، حتى لو كان بدرجة نصير أو مؤيد أو كان قيادياً في حزب المؤتمر الهندي!!

جدير بالذكر أنَّ الشرطي بعد خدمة تقرب من 50 سنة حصل على ترقيات وكتب شكر كثيرة أوصلته إلى رتبة ضابط وهو بانتظار ترقية جديدة تتواءم مع قوانين المحتوى الهابط!!