محمد غازي الأخرس
ومن روائع ما قاله البغداديون في الفقر والغنى وعلاقتهما بكثرة الأولاد وقلتهم: كم نجانه تبجي على ولد، وكم ولد يبجي على نجانه، و"النجانه" وعاء معدني أو من خوص النخيل، يستخدم إما لحفظ العجين حتى يختمر، أو لحفظ أرغفة الخبز، ويسميها بعضهم (معجانه)، والتسمية مشتقة من العجن والعجين. المعنى أن بعض الأسر لم يكتب لها الباري نعمة الأولاد بسبب العقم، لذا التمس الذهن الشعبي من البلاغة استعارة رائعة لحالهم، فتخيلوا أن (نجانتهم) تبكي على ذلك الولد الغائب، ليأكل من خبزها.
بالمقابل، يحدث العكس عند كثير من الأسر المعدمة، إذ تعاني من كثرة الأولاد لدرجة تخيل معها الذهن الشعبي أن الواحد من هؤلاء الأولاد يبكي لعدم كفاية النجانة له ولأشقائه، فالخبز حسرة عليهم مثلما الولد حسرة على بعض المحرومين منه.
بلاغيًّا، تقوم جمالية المثل على ركيزتين، الأولى هي الاستعارة، والثانية هي المقابلة. في الاستعارة، تخيل الذهن لوعاء حفظ العجين عينين تبكيان، في وقت أجرى مقابلة لا أرهف منها بين نوعين من الحرمان، هما الحرمان من "الخلفة" والحرمان من الرخاء، والمشترك هو البكاء، من جهة، ونجانة العجين، من جهة أخرى.
هذا هو تفسيري للمثل، أما تفسير عبد الرحمن التكريتي صاحب (جمهرة الأمثال البغدادية) فيفيد بأن الغالب على الفقراء كثرة الأولاد وقلة الزاد، بينما العكس عند الأغنياء حيث يكثر الزاد ويقلّ الأولاد. والحق أن ملاحظته هذه شديدة الدقة، فكلما ترقى المرء وتمدن أصبح أكثر ميلاً لتحديد النسل، لذلك تكون الأسر الثرية المتمدنة قليلة الأولاد غالباً، خلافاً للمتحدرين من الريف ممن يحرصون على زيادة نسلهم، رغم أن غالبيتهم فقراء، وأحيانا يكونون مدقعي الفقر.
تتأمل حال أسرة حجي قدوري الثرية مثلا، فتجدها مكونة من خمسة وربما أربعة أفراد، ومع هذا تسكن في منزل مساحته (٦٠٠) متر، في حين تتزاحم عائلة زاير لفتة بمدينة الصدر في دار مساحته ١٤٤ مترا وهم ١٢ فرداً، ولكم أن تتخيلوا الفروق الحضارية والثقافية التي تنتج عن هذا الاختلاف.
بالعودة إلى جدلية الخبز والفقر، يقول البغدادي في المثل أيضاً: خبز الشعير حصره عل الفقير، ويقول في آخر: خبز الاذره عل الفقير حصره. وعن المعوز قالوا: حصرة عليه الخبزه، وهناك من يقول تعبيراً عن ضنك العيش: خبز شعير ومي بير، شلون يصير التدبير! بالمقابل، يقولون عن الغني: خبزه مخبوز وميه بالكوز، ولمن يؤثر العافية وهدوء البال رغم اتسامه بالفقر، يقولون؛ خبز وبصل وراحة كلب، وعبارة "الخبز وبصل" هذه لطالما سمعناها على ألسنة أمهاتنا كناية عن شدة الفقر، كن يقلن مثلاً: ولله ناكل خبز وبصل ولا ندنك راسنه، ويعادل هذه الكناية عبارة الـ "خبز وجاي" التي تقال في السياق نفسه، وإنني لأتذكر أحد أقربائي البعيدين كيف أنه أتعب أهله بكثرة أكله حتى أصبحوا يضطرون لإسكاته بأن يثردوا له الخبز في صحن ثم يشربونه بالشاي، لا فقراً وعازة، ولكنهم ملوا منه ومن شغفه بالأكل، ولعل لمثل هذا الطفل يلزم أن نعيد صياغة ما بدأنا به، فيكون: كم نجانه تبجي عله ولد، وكم ولد يبجي عله نجانه، وكم نجانه تبجي من ولد!.