عبد الهادي مهودر
من متناقضات المشهد العراقي أن المسؤولين الحاصلين على وظائف حكومية ومرتبات شهريَّة، ينتقدون التعيينات، ويقولون إن الحكومة تثقل كاهل الموازنة العامة بتعيين العاطلين، وإذا ضغط العاطلون عن العمل وملؤوا ساحات الاحتجاج في بغداد والمحافظات، عادوا ليطالبوا الحكومة بتلبية المطالب المشروعة وتوفير فرص العمل للشباب، وهذا المثال في التعامل المتناقض مع الأحداث والازدواجية في المواقف، ينطبق على جميع القضايا والأحداث، التي تشهدها الساحة العراقية، حيث تتقلب الآراء والمواقف من القضية نفسها حسب الظروف والمصالح، أما القيم والمبادئ فقد وضعت في ذلك الكيس مع البسطال والبيرية، كما تقول الحكاية الشعبية، وتكشف مواقع التواصل الاجتماعي عن الكثير من المواقف المتناقضة للشخص الواحد والجهة السياسيَّة الواحدة، حيث الرأي السابق يدحض الرأي اللاحق، وهكذا دواليك، وبشكل بات يثير السخرية والاستغراب.
والسؤال الذي يطرح نفسه بقوة بعد كل حادثة تشغل الرأي العام، هو ماذا نريد بالضبط، ولماذا لا نميط اللثام عن وجوهنا ونعبّر عن أنفسنا وتوجهاتنا، كما هي، ولا نعلن عكس ما نخفي؟ وعدم وجود هدف محدد يعني الدوران المستمر في حلقة مفرغة، ولو افترضنا وجود تيارين متعارضين، فمراجعة مواقفهما تكشف ايضا عن الانتقائية نفسها، حسب الأحداث ومدى الانتفاع من الحكومة، وهو الأمر الذي شوّه الصورة وهزّ مصداقية الجميع، حيث إن فقدان الثبات على المواقف من القضايا المبدئية، يثير تساؤلاتٍ عميقةً داخل المجتمع وشكوكًا بوجود ما يشبه الخديعة واللعب في منطقة العواطف والغرائز والمعتقدات، وكأن المطلوب هو أن نعيش في مسار لا ينتهي من الجدل العقيم، والاستثمار في مناطق الاختلاف، كلما تباينت المصالح وتبدلت المواقع وزوايا الرؤية، حتى بات الحال يشبه قصة اللوحة الفارغة التي حتى وقف أمامها شخص من عامة الناس منبهراً ومتأملاً بهذا البياض الناصع، وبالفراغ الفسيح وأسقط عليها ما في داخله من هموم وأحلام وتطلعات، وما في جيبه من مال، وقرر شراءها بأي ثمن، وقد تعرّض الرسام الإيطالي (سالفاتوري غاروا) إلى الكثير من الانتقادات، بسبب بيعه شيئاً غير موجود، لكنه يردُّ بثقة تامة "عملي الفني ليس لا شيء، بل هو الفراغ، واللا شيء له وزن وطاقة وفقاً لمبدأ الريبة وعدم اليقين للفيزيائي الألماني هايزنبرغ".
والمهم في القصة أن الرسام يبيع ويربح آلاف الدولارات من أفكاره (وفهلوته)، ولوحة الفراغ وحكاية ( اللا شيء) ليست الأولى، وهي وليدة الظروف التي تجعل الناس تصدّق كل شيء، وتمنح العقل إجازة إجبارية، وقد سبقه في قصة مماثلة رسامٌ إيطاليٌّ آخر باع موزة بـمبلغ ١٢٠ الف دولار، بعد تثبيتها على الجدار بشريط لاصق، ووفقاً لهذه الأفكار يمكن أن يصدر أحدهم رواية بكتاب فارغ ويكون لها قرّاءٌ يقرؤون الممحي، والويل لمن يقول إنها فارغة ولا تساوي فلساً واحداً خشية اتهامه بعدم فهم هذا النوع من الفن العميق.