عنف المثقفين

الصفحة الاخيرة 2023/11/26
...

محمد غازي الأخرس
وممَّا يرويه الراحل جعفر الخليلي في الجزء الأول من كتابه (هكذا عرفتهم)، عن عنف الأدباء العراقيين وعدم تحملهم الانتقاد أو التجاهل، أنَّ الدكتور مصطفى جواد كان خشناً في أول أدوار حياته ويبدو في ذلك شبيهاً بالأب أنستاس الكرملي. ويذكر أنه تناول ذات مرة اللغوي المقيم في البرازيل جورج مسرة فأسمعه ما لا يسر، فكان رد (مسرة) عليه في منتهى التهذيب وتلخص في أنه لا يرى أي مبرر لاحتقاره لأنه يعيش في البرازيل، فكأنَّ العلم قد اقتصر على من يعيش في العالم العربي. ولئن كان مصطفى جواد خشناً مع سواه، فإنه هو شخصياً تعرض إلى العدوان اللفظي بعض المرات، ومن ذلك أنه لفت نظر معروف الرصافي يوماً، وهما في مجلس من المجالس، إلى كلمة كان الرصافي قد استعملها خطأ. وبدلاً من أن يناقش الرصافي منتقده جواد أو يشكره على تنبيهه له صرخ بوجهه:- انچب!

 وفي مرة أخرى تعرّض جواد إلى أذى معنوي وقسوة قلَّ نظيرها من الشاعر عبد القادر رشيد الناصري الذي عُرف بحدة طباعه. ففي أعقاب صدور (دليل الجمهورية العراقية) الذي أسهم جواد في تحريره هو وأحمد سوسة ومحمود فهمي درويش، صادف مصطفى جواد الشاعر المذكور، وكان "في أوج عربدته من السكر"، فسأله عن سبب إهماله وعدم ذكر اسمه ضمن أسماء الشعراء والأدباء الذين وردت أسماؤهم كأعلام في دليل الجمهورية، فردَّ جواد بتهذيب بأنه لم يكتب الفصل الخاص بالشعراء والأدباء، بل اقتصر عمله على الفصل التاريخي فقط. فلم يقتنع عبد القادر الناصري وبقي مصراً على العتاب بلهجة مخيفة. قال له جواد- فماذا تريد مني الآن؟ فردّ:- تجلس على قارعة الطريق وتكتب لي شهادة بقيمة شعري ومكانتي بين هذه الزمرة من الشعراء. قال ذلك وعيناه تقدحان شرراً، فارتعب صاحبنا وقال:- إذا كان هذا مطلوبك، فما أيسر تلبيتي له وأنت في ساعة صحو رائقة، فكيف بي وأنت كما ترى، يقصد كونه ثملاً فاقداً لتوازنه. قال ذلك وهو يضحك، ثم جلس في قارعة الطريق وشرع يكتب ما يمليه عليه الناصري عن شعره ومكانته الأدبية.

الحق أنَّ مثل هذا العنف الدائر بين الأدباء العراقيين معروف ومنتشر، منذ بدايات القرن العشرين حتى اليوم، فهم نزقون وضيقو الخلق في ما بينهم، لاسيما إذا شعر أحدهم أنه أهمل أو تم تجاوزه بشكل مقصود من منافس له. بل إنك إذا أردت استفزاز أحدهم وإخراج طاقته الكامنة من العنف، فما عليك سوى تناسي اسمه أو تعمد الخطأ به، حينها تصل الرسالة ويفهم فلان أنَّ (علان) يحاول جعله نكرة، فيستثار ويرد عليه بحدة. أما إذا قيل له- لو تموت ما تصير شاعر، فيمكن أن يتحول إلى فريد شوقي أيام عزه، فيطرح خصمه أرضاً كما جرى مرات ومرات. 

كثيرون تأملوا هذا العنف، سواء كانوا عراقيين أم عرباً، ومنهم مثلاً عبد الإله بلقريز الذي اقترح مصطلح (السادية الثقافية)، بكونها ظاهرة مرضية يعاني منها الوسط الثقافي العربي وتعني الانتشاء بتعذيب الآخرين وممارسة العنف. يقول بلقريز إنه قد يجتهد المثقف العنيف للتحايل على عرضه المرضي بتصويره على شكل نقد، لكن ما إن يتجاوز المرء هذا الانطباع الأول السطحي وينصرف إلى مفردات ذلك النقد يكتشف في الخطاب السادي إدماناً رهيباً على استعمال مفردات العدوان، وعلى ممارسة الذمّ والتشنيع والتجريح بلغة الشتم البذيئة، ولي عودة مع الموضوع، فانتظروني.