شمخي جبر
للإعلام دورٌ مهمٌ في صناعة الوعي وتشكيله مهما كان شكل هذا الاعلام ووسائله (صحافة، إذاعة، تلفزيون، سينما) أو أيَّ وسيلة أخرى، ويتبع هذا الدور والتأثير الحرية التي يتمتع بها والسياسة التي تؤطره والأجندات، التي توضع لخطابه فتحدد أهدافه. إذ يقول برجنسكي مستشار الأمن القومي الأميركي الأسبق:
أن تهيمن على العالم يعني أن تهيمن على ثلاث: الفضائيات والمواقع الجيوستراتيجية، ثانيا الثروات الطبيعية وبخاصة موارد الطاقة على امتداد الكرة الارضية، وثالثا الأفكار، إذ تعد وسائل الاعلام إحدى أدوات التغيير الثقافي والاجتماعي اذا تم استثمارها بشكلٍ فعّال وجيد، ولها الاثر البالغ في (تشكل الاراء وتوجيهها الوجهة المبتغاة من لدن القائمين على وسائل الاتصال، وفي التأثير في الاذواق والمعايير وتنميط الإدراك، فالوسائط هذه تقوم بما كانت تنهض به مؤسسات التنشئة الاجتماعية والثقافية من أسر ومدارس وروابط اهلية (دينية ومدنية)
في صيف 2008 أعلنت وزارة الداخلية البريطانية عن ستراتيجية لمكافحة الإرهاب. وأكدت هذه الستراتيجية ضرورة «تحدي» المتطرفين أيديولوجياً. فالمواجهة بالعمليات الامنية والعسكرية ليست ذات فائدة إن لم يقدم لها إسناد ايديولوجي واعلامي وثقافي يفند مقولات الارهاب، فالارهاب ليس عمليات انتحارية وتفجيرات فحسب، بل له ثقافته وفتاواه، ولايمكن مواجهته إلا بالأسلحة ذاتها، وبخاصة السلاح العقائدي. هكذا كان العمل الذي أنتجنه شبكة الاعلام العراقي هجوما معاكسا ثقافيا وإعلاميًّا لمواجهة خطاب الارهاب والكراهية والاقصاء والنبذ وفتاواه.
كان إطلاق عنوان (ارض البدايات) على هذا العمل الكبير والمهم موفقا، لاعلان الاعتزاز بهذا الارث الديني، بوصفه جزءا مهما من إرثنا الحضاري والثقافي، وهو عمقنا التاريخي الذي بني عليه وعلى اساسه ما تلاه من منتج ثقافي وحضاري وديني. أرض البدايات انطلق من بدء التعريف والتعارف التي تعد في صدارة ستراتيجيات إدارة التنوع في مجتمعات التنوع الديني. ومواجهة التشويه الذي لحق بالأديان العراقية العريقة وتهديم الصور النمطية التي بنيت على مقولات لا أساس لها، بل كرّسها بعض الكتاب والباحثين والتي بنيت من خلالها وعلى اساسها جدران عالية بين الأديان، فكانت هذه الجدران عوامل تفرقة وتمييز وإقصاء، بل وصلت إلى التكفير أحيانا. فكانت من نتائج كل هذا المذابح التي تعرض لها الايزيديون والمسيحيون وغيرهم خلال سيطرة عصابات داعش الارهابية على بعض المناطق.
جاء المنتج الثقافي والفني والإعلامي (أرض البدايات) ليكون لحظة عراقية لبناء الجسور وتهديم الجدران، التي عزلت وصنفت بعض العراقيين فعرضت للتهميش وتطبيق مسطرة الإقصاء ضدهم. يقول مخرج (ارض البدايات) الذي نال الجائزة الأولى في مهرجان الإذاعات والتلفزيونات العربية في تونس بدورته الثالثة والعشرين. علي السومري ( إنها «محاولة لردم الهوة الكبيرة التي حدثت بين شرائح وأطياف وقوميات المجتمع العراقي في أعقاب أحداث 2003). تم إنجاز خمسة أفلام (الإيزيدية، الصابئية الزرادشتية، الكاكائية، والمسيحية)، الأول عن الديانة الإيزيدية، وهو الفيلم الذي فاز مؤخراً بالجائزة الأولى في مهرجان الاذاعات والتلفزيونات العربية، وهو يتناول نشوء الديانة وطقوسها، حيث قمنا بجولة في أبرز المعابد القديمة منها معبد لالش.
وفي الجزء الثاني من السلسلة تمَّ اختيار الديانة الصابئية، اما الجزء الثالث فكان عن الديانة الزرادشتية وما يتصل بها من آفاق روحانية. هذا العمل المهم محاولة لتصحيح الكثير من المفاهيم الخاطئة، التي أشيعت عن هذه الديانات ومعتنقيها، من خلال لقاءات عدة مع رجال دين وباحثين مختصين في الشأن الإيزيدي والمندائي والمسيحي حين يختفي الاعتراف بالتنوع والتعدد وتسود ثقافة التعصب والتطرف، يظهر الإقصاء والتهميش والالغاء والتجاهل مفهومًا وسلوكًا وممارسة، وتبدأ بعض الجماعات القومية والدينية والطائفية بالشعور بالحاجة لستراتيجيات دفاعية ومطالبات حقوقية لشعورها بالخطر الداهم. والعراق بوصفه أحد بلدان التنوع الديني والقومي، عاش أبناؤه لآلاف السنين متجاورين متحابين، لم تستطع النزعات الشوفينية أو التطرفية أن تفرقهم أو تزرع العداء بين مكوناتهم. العراق بحاجة إلى ستراتيجيات لإدارة تنوع ورعايته وحمايته من خطابات الكراهية، سواء كانت سياسية أو دينية، فهو اكثر حساسية لهذه الخطابات وبيئة مهيأة لوجودها في ظل أيديولوجيات دينية أو طائفية. يتجلى خطاب الكراهية في برامج بعض القنوات الدينية أو تصريحات بعض السياسيين، وقد يصبح هذا الخطاب هو هدف السياسي أو القناة التلفزيونية وعدتها لتحقيق اهدافهما في تهديم التعايش المجتمعي.
وقد يسعى البعض إلى إيقاظ فيروس الطائفية أو التفرقة العنصرية، ومحاولة تنشيطه وبث الروح فيه من خلال بعض الافعال والأقوال، وقد اتفق القوم على إن القول أشدُّ إيلامًا وتأثيرًا من الفعل.
فالقول قد يكون تصريحًا لوسيلة إعلام أو تقريرًا خبريًّا، يتمَّ دسُّ بعضِ السموم فيه من أجل الترويج وإشاعة هذا الفيروس، كلما خمد وضعف أو تلاشى. وهو ما اطلق عليه الكاتب الروسي (سيرجي قره مورزا) التلاعب بالوعي الذي مارسته بعض وسائل الاعلام.
أرض البدايات كمنتج ثقافي يحتاج للدعم في مجال الانتاج والتسويق وجدية النوايا والأهداف.