سالم مشكور
نوعان من الاخطار يمكن أن تواجهها المجتمعات، الخطر الخشن كالعمليات العسكرية والحصار السياسي والاقتصادي، والخطر الناعم الذي يستخدم أساليب وآليات تبدو مرغوبة ومحببة ومحل ترحيب من بعض الفئات دون ادراك لنتائجها بعيدة المدى على المجتمع. إشاعة التفاهة هي إحدى الأساليب الناعمة، التي تستخدم في تدمير المجتمعات عبر جرّها إلى عالم التفاهة الجاذب ببهرجته وتقديمه ما يجذب دون عناء.
ما هي التفاهة؟
تجمع معاجم اللغة على أن التفاهة هي قلة القيمة، والضحالة، والسطحية، والوضاعة، والهبوط. عكس التفاهة هو العمق، والرزانة، والوقار، والعلو القيمة. من هنا فإن الشخص التافه هو الشخص غير المتزن، السطحي، عديم القيمة في أفعاله.
ظاهرة التفاهة باتت متفشية في العالم منذ سنوات بعيدة. وأفضل من كتب عنها هو الفيلسوف الكندي «آلان دونو» في كتابه الصادر بالفرنسية عام ٢٠١٥ لكن تداول مضمونه بدأ في المحيط العربي بعد صدور ترجمته العربية قبل ثلاث سنوات تحت عنوان «نظام التفاهة». التفاهة – كما يعرفها هي «عملية تحشيد جميع الإمكانات من أجل التركيز على الجواب السطحية والتافهة من التفاعلات الاجتماعية مقابل تجاهل القيم الأساسية والمبادئ الإنسانية.
الاصداء وكثافة التداول والاقتباس العربي من هذا الكتاب يشير إلى مدى تفشي التفاهة في المجتمعات العربية، بدءاً من الأنظمة الحاكمة التي يقول دونو انها في ظل نظام التفاهة تعطى بيد التافهين باختلاف درجاتهم ومستوياتهم، نزولاً إلى مجالات الفن والإعلام، التي تلعب دوراً رئيسيا في نشر التفاهة في المجتمع، فيتحول المجتمع إلى مشجع للتافهين ومساهم في شهرتهم وطغيان تفاهتهم في المجتمع وتحولهم الى قدوة وطموح يسعى الآخرون اليه. ومجرد غياب القدوة الصالحة بفعل انتشار التفاهة يبدأ المجتمع انحداره، وهذا ما نلاحظه في مجتمعاتنا الشرقية، ومجتمعنا العراقي خير مثال. قد تكون ظاهرة التفاهة تفشت في باقي المجتمعات بشكل تدريجي رغم تسارعها بعد ظهور التقنيات لاتصالية الحديثة، إلّا أن المجتمع العراقي يتميز عن غيره من المجتمعات في سرعة تفشي التفاهة فيه كونه خرج العام ٢٠٠٣ من قمقم وضعه في النظام السابق وعزله عمَّا شهده العالم من تغييرات في كل مناحي الحياة، ومن بينها تقنيات الاتصال التي كانت وصلت آنذاك على المحطات الفضائية والهاتف النقال، التي كان العراقي يسمع عنها ويحلم بها، فإذا هي في متناول يده بشكل مفاجئ عام ٢٠٠٣. يمكن القول إن مجتمعنا كان أرضا بكراً لمن يريد أن يزرع فيه. وكانت وسائل الاعلام الفضائية التي التقطها العراقي لأول مرة أداة فاعلة لنقل ثقافة التفاهة إلى الساحة العراقية، على الصعيد السياسي، حيث التناول السطحي والتحريفي للأخبار والأحداث، أو الأصعدة: الاجتماعي والفني والاكاديمي، الذي دخل عالم التفاهة منذ سنوات الحكم الصدامي، اذ نقل تفاهته إلى كل المجالات الاكاديمية والفنية فضلا عن السياسية. المؤسسة التعليمية وبفعل الحصار والجوع، ومعها القمع والخوف والتملق باتت بوقاً للنظام، وبؤرا لزرع التفاهة في عقول التلاميذـ وفي الجامعات باتت الرسائل والاطاريح مجال تبارٍ في مديح القائد والاشادة بخصاله، أو الهروب إلى مواضيع تافهة لا تغني ولا تسمن. دخول وسائل التواصل الاجتماعي وانتشار الهواتف الذكية فتح أبواب التفاهة على مصراعيه. لا أحد ينكر الجوانب الإيجابية للتقنيات الاتصالية الجديدة، لكن جوانبها السيئة شكلت خطرا كبيرا على المجتمع وعاملا رئيسيا في نشر التفاهة. لا يعود الأمر فقط إلى سوء الاستخدام، بل إن الشركات المالكة لهذه المواقع تتعمد انتاج خوارزميات تجعل المحتوى التافه هو الأسرع انتشاراً والمحتوى الرصين هو الأضعف. تفشي المحتوى الهابط خلق مستهلكين يلهثون وراء التفاهة، ويبتعدون عن المحتوى الهادف، مما شجع الكثير من التافهين على الانخراط في هذا المجال الذي يوفر الشهرة الرخيصة والعوائد المالية الكبيرة، حتى باتوا نجوماً في نظام تفاهة يتبناه الجمهور ويهلل له. أخطر ما في الامر أن نظام التفاهة قلب منظومة القيم الأخلاقية رأسا على عقب، بالحرامي بات اسمه «شاطر» وبائعة الاثارة والسخافة بات اسمها «فاشنيستا» أو إعلامية أو فنانة، والنزيه بات «غشيم» والمتمسك بالاخلاق مجرد «معقد».
هل الحالة ميؤوس منها؟
بالتأكيد لا. فالأمر يحتاج إلى وعي بالخطر أولا ثم الانطلاق إلى المواجهة، من خلال المؤسسات التربوية والدينية والمنظمات الأهلية الجادة والاعلام الحقيقي الذي يحمل مهمة بناء الانسان. جهود فردية وجماعية يجب ان تتضافر لوقف موجة التفاهة، مدعومة باجراءات حكومية رادعة.