حمزة مصطفى
دائماً نعودُ عند الحديث عن الدولة في العراق الى رسالة الملك فيصل الأول الشهيرة التي «ذبحها» على قبلة في ما يبدو لجهة عدم إمكانيَّة قيام دولة عراقيَّة لأنَّه «في اعتقادي لا يوجد في العراق شعبٌ عراقيٌّ بعد، بل توجد تكتلاتٌ بشريَّة خياليَّة خالية من أي فكرة وطنيَّة، متشبعة بتقاليد وأباطيل دينيَّة، لا تجمع بينهم جامعة، سمّاعون للسوء، ميّالون للفوضى، مستعدون دائماً للانتفاض على أي حكومة كانت».
وبالرغم من أنَّ الدولة العراقيَّة كانت تأسست قبل رسالة فيصل وعلى يديه بإرادة بريطانيَّة كاملة «من الخيط للمخيط» قبل نحو عشر سنوات من تاريخ رسالته التي يعودُ أقرب تاريخٍ لها الى العام 1932، فإنَّه وطبقاً لمضمون تلك الرسالة فإنَّ الملك الراحل قد كان «غسل يديه» تماماً من إمكانيَّة قيام هذه الدولة.
مات بعدها بسنة واحدة وتوارث المُلكَ بعد ولده غازي وحفيده فيصل الأول الذي قتل مع كامل أسرته فجر 14 تموز عام 1958.
لكنَّ الملك فيصل الذي أعلن فشله في بناء الدولة التي حلمَ بها والتي بقيت متخيلة في ذهنه، فإنَّ قادة العراق الجمهوري طووا صفحة العهد الملكي وأوحوا للعراقيين بأنَّهم بنوا الدولة المنشودة عبر إطلاق مشاريع وبنى تحتيَّة وتشكيل حكومات وتبادلٍ ناري للسلطة عبر الانقلابات التي لم تكن تحتاجُ أكثر من قطع مرسلات أبي غريب وكم ضابطٍ في الحرس الجمهوري يسهلُ دخول الثوار الجدد الذين سيبنون الدولة الجديدة.
لكنَّ ما حصل بعد العام 2003 بدا أمراً لافتاً، فالعهد الجديد الذي جاء بإرادة أميركيَّة كاملة من «الخيط للمخيط» كما الإرادة البريطانيَّة بدا مأخوذا بزهو الانتصار المتمثل في إسقاط النظام السابق بوصفه الهدف الأكبر والأعظم بقي مزهواً وهو يقيمُ مؤسساتٍ ذات بعدٍ تنظيري على ركام دولة بقيت متخيلة في ذهن الجميع باستثاء محاولاتٍ متواضعة خلال العهد الملكي من أجل بناء دولة بدا أنها كانت على وشك التأسيس لولا لحظة 14 تموز الفارقة والتي كانت كارثيَّة بكل المعايير.
بعد العام 2003 جرى تشكيل مؤسسات «وهميَّة» للدولة الجديدة بدءاً من تجربة مجلس الحكم التي تعدُّ الأفشل على كل المستويات، ومن بعدها كتابة دستورٍ سريعٍ بذهنيَّة متخيلة، وإقامة انتخابات وتشكيل حكومات أول من يعارضها بعد ممارسة أولى سلطاتها أكبر داعميها خصوصاً إذا بدا أنَّها بصدد التأسيس ولو على خجل.
ولعلَّ العنصر الغائب على مستوى تشكيل هذه الدولة المتخيلة والذي لم يحظ بالاهتمام اللازم هو عنصر المواطنة.
وبينما كانت الأنظمة السابقة «تطمطم» هذه القصَّة بطريقةٍ أو بأخرى لكنَّ النظام السياسي الذي تشكل بعد العام 2003 ورَّطَ نفسه على صعيد التصدي لمفهوم المواطنة لكنْ عبر توافقيَّة فاشلة ومحاصصة أكثر فشلاً وعلاقات قوة خلقت تبايناتٍ حادة داخل المجتمع والسلطة معاً، بحيث نتج عن ذلك فهم المواطنة على أنَّها ما نتخيله وليست هي الهويَّة التي يجب أنْ تختفي بوجودها كل الهويات الفرعيَّة.
تعددت الأعلام والأناشيد والأهازيج بدءاً من علم الدولة المُختلف عليه ونشيدها المتنازعُ عليه وسلطاتها التي لا أحد يعرف من أين تبدأ والى أين تنتهي.
والأهم أنه وفي ظل عدم القدرة على الاتفاق على عقدٍ اجتماعي يؤسس لهويَّة واحدة فقد بدا كل حزبٍ وكل ملة وكل قوميَّة وكل عشيرة بل وكل زعيمٍ سواء كان رجل دولة أو قائداً سياسياً لحزبٍ أو قوة مسلحة يفهم الدولة مثلما يراها هو، أي يتخيلها، لا مثلما هي على أرض الواقع. والأخطر أنَّه يريدُ فرضَ متخيله على الآخرين بوصفه واقعاً.