محمد طاهر العصفور
غيري يسوق الشعر فضل بلاغة
وأنا أفجر في ينابعه الدم.
أم
أنام ملء جفوني عن شواردها
ويسهر الخلق جراها ويختصم
من المتوقع أن يتبقى مثير هذا السؤال اجابات تتسم بالتهكم أو الريبة في جدية السؤال أو شيئا من الوسم بعدم الادراك، لأن البيت الأول يعود إلى شاعر حديث، والثاني يعود إلى المتنبي، السؤال يخالف أفق توقع جمعي، لأن المتنبي في التفكير الثقافي هو أعظم شاعر عرفته العربية، وفي وجدان العقل الجمعي مسكوكة يرددونها تجاه أي عظيم (عقمت النساء أن تلد مثله)، وهي في الحقيقة مقولة تلازم - في مضمونها كل الأمم - مثل هومير عند الألمان، والمتنبي عند العرب، ودانتي عند الطليان، وشكسبير عند الانجليز وجوته عند الألمان.
ولكن هذا مقبول إذا كان في إدراك العقل الجمعي، غير أن الظاهرة هذه تنسحب أو تكاد على كثير من المختصين، والحق أني لا أستطيع فصلها عن قضية القديم والحديث، لكنَّ كثيرا من المفاهيم أصبحت أكثر نضجا في نظرنا إلى الظواهر الادبية والى ما نريد من الأدب، وعلى سبيل التمثيل فقد انشغل التراث بقضية السرقات الأدبية وصنفت فيها المصنفات، ومع نضوج الفكر النقدي، أصبحت هذه المقولات أكثر انحسارا، ودخلت في سياق تاريخ الأدب والأدب المقارن تحت مفهوم (التأثير والتأثر) وبعد ذلك صار البحث الأدبي واللغوي أكثر مضاء معرفيا.
ومن طرف الدرس اللغوي تسرب إلى الدرس النقدي ما عرف بـ (التناص) الذي صار ملمحا ثقافيا ومعرفيا وفنيا، وليس مسبة كما كان مفهوم (السرقات) ومع ذلك ما زال كثير من المتلقين يرون أن القلم كسر بعد المتنبي، وأن النموذج الأمثل هو ما أبدعه المتنبي.
والحق أن العقل يخالف في بدهياته هذا الاتجاه المزاجي لا الموضوعي من ناحية الكل والجزء والتفاوت، ومعنى ذلك أن الكمال سمة لاتدرك وأن التطور على مستوى المعرفة والفن لا ينسجم مع توقف الزمن عن معلم من معالم المعرفة
والفن.
وإذا كان الشاعر هو محض لغة متطورة وخطاب شعري متطور، فمما لا شك فيه أن الشعر تطور تطورا ملحوظا منذ المتنبي حتى اليوم، ومنذ أمرئ القيس حتى المتنبي، ولو لم يكن الشعر كذلك لما كان ابو تمام أو المتنبي أو المعري أو الشريف الرضي أو الجواهري أو نزار قباني أو محمود حسن اسماعيل صاحب البيت الذي وازنته مع بيت المتنبي عرضا وتركت كلا البيتين للمتلقي يتذوقهما ويحكم عليهما.