شعرهم في السجون

ثقافة 2024/02/26
...

  ياسين طه حافظ

منذ سنين، يعاودني هذا الموضوع واشكاله الأخلاقي. يحضر مرة من منطلق شخصي ومرة من مواجهة فكرية لما يقع على الإنسان، ومدى عدالته أو صوابه. فأنا دائماً أشعر بالتعاطف مع المقيّد أو الذي يقودونه مجرماً أو بريئاً متهماً. أشعر بتعاطف لا مع الجريمة والاثم أو الخطأ ولكن مع الإنسان يواجه العواقب أو المهانة أو الحرمان، بسبب ما بدر منه أو ما فعل. يوماً سألت نفسي، الناس في الشمس والهواء الطلق، في الحياة وما فيها، أحرار، هذا يبدع في الرياضة وذلك في مهنة أو حرفة وآخرون في الفن أو الأدب وسوى ذلك مما يشغل ويميز الناس.

ما يعنيني منها الآن هم الذين يعبرون عن أفكارهم، عن محنهم، عن أساهم، بالكتابة وثمة العديد من الشعراء خارج السجون لكن أليس للسجناء، لأولئك الذين وراء الجدران والأبواب الموصدة.. كتابات تعبر عما شهدوا ويشهدون، عما يتذكرونه أو يحنون له، عما يتمنونه بحسرة وعما تمر بهم من حالات أسى أو غضب أو ندم، أو شعور بظلم، تنتهي بضرب اكفهم أو رؤوسهم بالجدران أو بالصراخ أو بالاستسلام لما هم غير قادرين عليه ثم وذرف الدموع: بصمت أو بنحيب عال؟

أذكر وأنا صبي في الابتدائية، وقع بيدي كتاب للشيخ المرحوم عبد العزيز الحلفي بعنوان أدباء السجون. كان أهداه لخالي- هدية محبة من شيخ معمم إلى شيخ معمم، كنت إذ ذاك صبياً لا أفهم. ولكن العنوان رسخ في ذاكرتي وها أنا أذكره اليوم بعد ما يزيد على سبعة عقود. 

إذ عرفت بأنه تحدث عن بعض من كانوا في الأسر والسجن من ناس الأدب في تاريخنا. وقبل يومين كنت أقلب عدداً قديماً من مجلة شعر (Poetry Review) التي تصدرها جمعية الشعر البريطانية- وهي غير مجلة (Poetry) الامريكية المعروفة.. هذا عدد حزيران 1984. 

وعلى ما أتذكر، أرسله لي في وقته، أو بعد وقته، الشاعر صلاح فائق من لندن حين كان يعمل في مجلة الدستور ومقيماً هناك.

صادفتني في هذا العدد مراجعة أو رأي كتبه جون كليك ( Jon Killict) بعنوان: “الشعر في السجون” يتساءل في بدئه أن كان أحد من السجناء المقفل عليهم، لصالحهم أو لصالح المجتمع، بحاجة إلى التعبير عن نفسه. وذكر بأن الحرمان من الحرية يركز تفكير السجين المبعد على أساسيات وجوده.

ثم أن الإنسان المبعد عن الحياة والفن والحيوية الاجتماعية والعائلة والاصدقاء يقضي النهارات في استعراض وتقليب وضعه أو حاله. تأتيه الأفكار ضاغطة متكدسة وبحاجة إلى التعبير عنها. وهنا لا تحتاج كتابة الشعر إلا إلى قطعة من ورق وقلم. قد يكون الشعر بأبسط درجات التقنية، ولكنه محتدم بروح وتطلّع وعذابات أو بانغلاق كون على إنسان حي.. والكاتب يستشهد باِنموذج شعري من شعر السجون:

كم من أحلام الرجال ماتت

وكم من الرجال سُحِقوا وهم يصرخون

خلف هذه الجدران؟

آلاف فوق آلاف 

وسنين فوق سنين يبكي الناس حرياتهم

ودموع تلي دموعاً

كوى ذوات قضبان وأبواب مقفلة 

وجدران إسمنتية وأرض زلقة 

أعِنّي عليها، أعِنّي أعود لبيتي !

آخر يكتب قصيدة يقول فيها مخاطباً عائلته أو حبيبته:

لا أرى الخمرة سبباً كافياً لحرماني منكم!

ويقول:

أنا مقفل علي،

لا استطيع أن أساعدك بشيء

حينما نلتقي

ستكون الدموع ما تزال في قلبي

سجين آخر يكتب:

بعض بتحديقة عينيه

يكشف حزنه- 

ثيابه في الفن

بعضها، انزبق للأرض..

وزائر جاء

وابتسامة ترحيب

سجائر ورسالة من بيتي.

أكيد نحن لاننتظر من مثل أولاء لغة سليمة وصفاء رؤية ولاتقنيات، ستجد بديلها دفاتر ملأى بما يشبه التمارين وربما تعقبات رفاقه عليها، وكلا الشعر والتعقيب مفيد للدارس أو الباحث، فأولاء بشر كُتِبَ عليهم المكوث في الجحيم. كيف تسير بالأفراد الحياة، وماذا ستكون ردود الفعل، وكيف العواقب...؟

الله يصلح الظروف وحيث الناس تعيش.. المهم بالنسبة لنا، أو لما يناسب ما نفهم ونستطيع.

ومثال آخر نذكره لدلالته ولما يكشف مما خفي ينظرون إلى القلاع المحروسة المقفلة ويعبرون.

هو موضوع إنساني شجي وكونهم، أو وصفهم بالمجرمين، يُبعد التفكير فيهم وفي عذاباتهم الإنسانية. علماً إن هذه التعابير، قصائد أو رسوماً أو لعنات... تكشف عن كثير وتنفع كثيراً في موضوعات شتى من الدراسات الاجتماعية والنفسية والقانونية، كما الأدبية.

تبقى مسألة مهملة منذ دهور، وهي هل الذي إرتكب جرماً، أو صار مجرماً بكلّيته البدنية والفكرية والإنسانية؟

أم أننا بأزاء إنسان، مدان بعضُ ما فيه؟

لماذا إذا يُصادَر كله؟

لماذا يُعاقب كله؟

جوانب أخرى سليمة فيه. عقله يمتاز بذكاء وسلامة. مهاراته جيدة، طاقته الجسدية ومشاعره جيدة، طيب وإنساني أحياناً، فهل من الصواب ثانية، أن نلغي كل هذا، أن نسجن، ندمر، نعطّل كل هذه الصفات من أجل صفة أو حدث؟ للقانوني تفسيره ومنطقه. لكن لنا أيضاً

تساؤلاتنا.

جرت محأولات عندنا، وفي العالم، واتصلوا واستنطقوا أو حأوروا سجناء. كانت النتائج تديننا أكثر ما تدينهم. 

ثمة عدالة في معاقبة- ذنب- عمل، فعل محدد وفي ساعة وفي ظرف، والفاعل في حال. حسناً هذا يُردَع لكي لا يتكرر الفعل لكي لا يبدو سهلاً فعله.

لكن أليس صحيحاً أن ننقذ ما نراه جيداً ونحميه، مثلما هو صحيح أن نعاقب ونؤذي ما نراه سيئاً أو خطأً؟

مرة ، وأنا عابر حييت زميل عمل أساء لي. سألني مصاحبي، أتسلّم عليه وهو أساء لك؟ قلت له لست مسيحياً. ولكني حييت الجانب الخير الباقي فيه، فليس كله سيئاً.

بهذا لا نخسر كل الجيد في الناس..