القيمة القانونيَّة للعدول والتوبة في التجريم والعقاب

آراء 2024/02/29
...

  القاضي ناصر عمران

إن لحظات العدول ومواقف التوبة، والتي تم التطرق إلى التعريف بها عند تناول المشرّع للركن المادي للجريمة، وتحديداً عند تعريف الشروع في المادة (30) من قانون العقوبات العراقي رقم 111 لسنة 1969 على أنه: البدء في تنفيذ فعل بقصد ارتكاب جناية أو جنحة إذا وقف أو خاب أثره لأسباب، لا دخل لإرادة الفاعل
فيها.

ثمة جدلية مهمة أفرزتها النظريات، التي تصدت للظاهرة الاجرامية، باعتبار الجريمة ظاهرة اجتماعية، وحاولت تفكيك عناصرها البنيوية، وذلك بإعادة السلوك الاجرامي، إلى متبنياته، والتأكيد على العوامل الداخلية والخارجية في صناعة الفعل الجرمي، فخرجت هذه النظريات برؤية، مفادها أن الظاهرة الاجرامية متبنى ثقافي، في حين رأى غيرهم أنها متبنى اقتصادي، وشكل هذان المتبنيان دعامتين مهمتين، لما تزل الدراسات الجنائية ومدارس البحث العلمي والاستقصائي في سجال دائم حول ارجحية أحد هذين العاملين، أو الدعامتين على الآخر.
وأياً تكن وجهة الغلبة في الترجيح لدى هذا الفريق، الذي يرى الاقتصاد هو الدعامة الأساس لوجود الظاهرة الاجرامية أو الفريق الآخر، الذي يرى في الثقافة بكل محتوياتها وعناصرها هي الاساس في وجود هذه الظاهرة، واذا كنا نرى في الرأيين أرجحية، فإن عامل السبق سيكون جدلا وتوهاناً ايضاً في البحث، لكننا ونحن نمر باستقصاء بسيط للرؤية الانسانية المعززة والمحفزة على التعزيز في الوقت ذاته، عند الوقوف على نصوص التجريم والعقاب، فيتراءى لنا عند الولوج في المبادئ العامة للتشريع الجنائي، والوقوف عند الجريمة الظاهرة الاجتماعية وأركانها المختلف على عددها، بين من يراها ركنين (مادي ومعنوي)، وبين من يزيد عليهما العامل الشرعي، لتكتمل أركانها ثلاثة، إن التعامل مع القانون الجنائي الاحادي المصدر، الذي يرى أن الجريمة والعقاب استثناء من الأصل في أفعال الإباحة، واذا كانت لا جريمة ولا عقوبة، الا بنص قطع تشريعي للتجريم والعقاب بالاستناد إلى النص، فإن الجمود القانوني منطلق من الحدية اللازمة في التطبيق القضائي، فالنص حاكم، وعباراته واضحة بنسقها الضاج بالشدة والردع، فعبارات مثل ( يعاقب.. بالإعدام.. أو السجن.. أو الحبس.. أو الغرامة ) ثم يعطى وصفا للفعل المجرم ( من قتل.. أو سرق.. حصل بدون وجه حق.. أو توصل بطرق احتيالية... ارتكب فعلا.. أو اغتصب.. أو هتك عرضا...) وحدَة العبارات واضحة في النص، يقابل ذلك رؤية انسانية تشرئب متزامنة حينا مع العبارة الحدَية للمشرّع، أو تالية له حتى لكأنك ترى من خلال النصوص اللاحقة أو المتزامنة أن صورة أخرى، ووجها جديدا للمشرّع أو النص الحَاد يبرز، أن المتأمل في رواية (الجريمة والعقاب ) لدستوفسكي يرى أن الكاتب في عمله الإبداعي افترض اقنوما جديدا لمعادلة المشرّع بثنائية (الجريمة والعقاب)، بل وفي عبء إثبات الواقعة الاجرامية، فحين يتهيأ للفعل المجرم جانٍ لا يترك للتحقيق ما يستدل به عليه- بالرغم من أن التحقيق يفترض أن الجاني مهما كان حاذقا، سيترك خلفه ما يشير إلى علاقته بالجريمة - لكننا في الرواية، وبعقلية الكاتب يدخل لنا معادل معنوي للعقوبة، من ذات الجاني وهو طالب القانون (راسكولينكوف)، و خارج مسرح الجريمة ألا وهو (الضمير) أن العقاب ليس المعادل القانوني للجريمة، وإنما ايضا المعادل النفسي لها، فلم يتم اكتشاف الجريمة، لكن الذي حدث هو تأنيب الضمير المستمر لذات الجاني وبالجلد المتوالي، حتى أجبره أخيراً على الوصول إلى لحظة الاعتراف.، واذا كان ما قدمه (دستوفسكي) حاضرا بعد ارتكاب الجريمة، فقد يكون يقظاً بعد برهة من البدء بارتكاب الفعل المجرم، وبخاصة حين يحتاج الجاني لإتمام ارتكاب جريمته إلى فعل آخر، عندها يستيقظ الضمير ليدفع بكل ما أوتي من قوة، لكبح جماح الجاني عن العودة إلى تكرار الفعل وتحقيق نتيجة الجريمة التي تعثرت بعد البدء بارتكابها والذي يعني رجوع الجاني عن اتمام الجريمة، بعد أن قام بالبدء في تنفيذ الفعل المكون لها، وقبل اتمام الجريمة، وهو ما يصطلح عليه بالعدول الاختياري، والذي يعني: أن يعدل المتهم عن اتمام الجريمة اختيارياً، وبعد البدء بتنفيذها، اما التوبة الايجابية، فإنها تحدث عندما يحاول الجاني اصلاح الضرر، الذي أحدثته الجريمة المرتكبة من قبله، وفي هذه الحالة تنهض مسؤولية الشخص عن الجريمة التي حدثت، ولكن يكون لهذه التوبة أثرها في استخدام أسباب الرأفة عند فرض العقوبة عليه من قبل محكمة الموضوع، والتي تخضع في رقابتها لمحكمة التمييز.
إن لحظات العدول ومواقف التوبة، والتي تم التطرق إلى التعريف بها عند تناول المشرّع للركن المادي للجريمة، وتحديداً عند تعريف الشروع في المادة (30) من قانون العقوبات العراقي رقم 111 لسنة 1969 على أنه: البدء في تنفيذ فعل بقصد ارتكاب جناية أو جنحة إذا وقف أو خاب أثره لأسباب، لا دخل لإرادة الفاعل فيها.
هي لحظات إنسانية مهمة اقتنصها المشرّع من ثنايا التمازج بين صورة مسرح الجريمة الواقعية والصورة المعنوية الحسية، التي فرضت حضورها عند الجاني، بعد البدء بارتكاب الجريمة أو بعد اتمامها، فاعتبرها ظرفا مخففا منح صلاحية الاعلان عنه إلى محكمة الموضوع المختصة.