عن تلك النخلة العجفاء

ثقافة 2024/03/04
...

  ياسين طه حافظ


يطيب للكاتب أحياناً أن يكتب في ما لم يعتد على الكتابة فيه أو أن يكتب في موضوع مما كان لا يراه مهماً، والأولى أن يتعالى عليه إلى ما هو أبقى وأنفع.لكن تأتي حادثة أو صورة أو ظاهرة تلزمك، تدعوك بالحاح للتعبير عما أثارته فيك وذكرتك به. بعض من هذه طرائف، بعضها عيوب، بعضها خطأ رأي أو خطأ اختيار، أو غفلة.أمس وأنا في السيارة عابراً ساحة الأمة فرحت بمشهد صف نخيل مغروس على طول الحديقة «مواجهاً» للسوق وازدحام الباعة والشراة في الجانب المقابل من الشارع.. عمل طيب أن تزرع نخيلا في الشوارع العراقية والساحات، وزرعها في هذا المكان، رسم مشهداً جميلا مباركاً.

لكن هذا الخط المبهج من النخيل المغروس حديثاً والذي نُقِل من بساتينه البعيدة ليستقر في أشهر وأجمل ساحة في بغداد عاصمة البلد، خطّ صف النخيل الجميل هذا يكسر انسيابه المريح وجماله وتناسقه وجود نخلة عجفاء مأكولة الرأس! لماذا هذه النخلة العليلة الشائهة؟ هل انتهى النخيل واضطرتكم الحاجة لها أو لم تروها تكاد تموت أو ستموت؟ أو أنها ستعيش عليلة زمناً وقد يمن الله عليها وعليكم بالعافية فتخضّر سعفاتها، وتنسجم وبقية النخيل؟ لماذا هذه النخلة العجفاء، ألا نخيل بعد؟ انتهى كله وبقيت هذه؟ أم هو الشراء جملة، ولا من يختار، ولا من يعزل المعوّجّة المحنية واليابسة برأس يابس قد تخضر يوماً، وقد تظل جذعاً ميتاً وشارة بؤس للعالمين؟ وفي مثل هذا المكان الذي يتمناه كل الشجر؟ ثم ألم ينتبه لها أحد ويبدلها بأخرى بعد كل الأيام التي مضت على زرعها، وأنها ما تزال عجفاء بلا رأس سليم وبلا سعف؟ أنا أعرف إن بعضاً مما يباع قد يُدَسّ فيه ما هو غير صالح.
حسناً نعرف هذا، ولكن في التنفيذ العملي ننتبه لما هو غير صالح شكلاً أو سلامةً ونعزله لنحافظ على عملنا وكماله.
وإلا فهل يعقل لا أحد رأى النخلة العجفاء واقفة شبه منحنية وشبه ميتة الرأس في ساحة الأمة؟ كيف رأيتها أنا وأنا عابر؟ ستعتدل وتشفى؟ ما الذي يضطرنا لأمل ضعيف وقد يخيب؟
هي ليست مسألة نخلة عجفاء، ولكن ما أريده هو أن في كل وزارة، كل دائرة وكل مؤسسة «نخلة» عجفاء، شخص عكِر أو جاهل، أو سيئ الطباع أو شخص لا يصلح لعمله أو لا يفهم.. وهؤلاء «العجاف» هم وراء ارباكات العمل وازعاج العاملين وتأخر الأعمال وانجازها.
أمثال هذه النخلة العجفاء، من العاملين، رؤساء دوائر، رؤساء مؤسسات، أو أقسام أو أكبر أو أقل منهم، هم النشاز المؤسف الذي نتحدث عنه وضرر هؤلاء المباشر على الناس وعلى العاملين معهم وعلى تنفيذ البرامج كبير مثلما هو مزعجٌ مؤلم.
في التنفيذ تتضح مشاكسات هؤلاء غير السليمة التي لا تستند لخبرة، وإذا تحركوا وعملوا، فبلا حماسة ولا عافية.
يظهر التأثير السلبي لهؤلاء في سير العمل وفي تنفيذ الخطط بأشكال عجفاء وقد تحرف النتائج عن الاستقامة إلى ما هو خطأ أو ما يؤخر ويربك أو يولّد التذمر والاستياء، تماماً كما أساء مظهر هذه النخلة العجفاء إلى صف النخيل الجميل واضح النمو والعافية.
في حياتنا العملية نمر بهكذا نماذج وقد يتولون الأمور، فنجد هذا العدد الكبير من المشاريع المتلكئة التي تبادر الإرادة المخلصة الجديدة اليوم وتؤكد على استكمالها. كان بعضها ممكن الانجاز لولا «الاعجف» هنا  و»الاعجف» هناك وفي هذه المؤسسة أو تلك الوزارة أو هذه المنشأة وذاك المشروع.
انتبهت للخبر المبهج يقول: أُنجزت إعادةُ عمل مصفى بيجي خلال سبعة أشهر وقد كان مهجوراً مهملاً أكثر من عشر سنين! رفعت يدي وأنا في مكاني وقلت للعاملين: سلاماً! وأنا اشهد هذه الفورة الوطنية، هذه الحماسة المباركة ودينامية العمل أو المتابعة التي لا تكلّ، للمجسّرات، للشوارع الجديدة، للمدارس، للمشاريع، للخطط، والحضور الفاعل في المناسبات المهمة والمؤتمرات.
أعجب حقاً كيف يمتلك هذا العراقي المخلص كل هذا الوقت وكل هذه الحماسة الوطنية وكيف له أن يتابع كل هذا! لكن من يُرِدْ أن يعمل ويُنجِز، يستطعْ أن يعمل وينجز وأن يفكر في المزيد ايضاً! السبب الأول والأكبر لهذه الروح، إنه ترك الماضي وأحداثه وراء ظهره ووهب كل روحه لحاضر العراق ومستقبله. وهو سلوك من يريدون التقدم والتجديد.
أسأل: كيف كنا نرى العراق اليوم لو أن الثلاثين سنة التي مضت، أو أكثر، حفلت بإنجازات واصلاحات ومشاريع ومتابعة مخلصة، مثل هذه التي نشهدها اليوم، وفي وقت قصير جداً وساخن مزدحم؟
أن هذا يدفعنا لأن نتمنى دائماً وجود مخلص كفوء وبكامل الحماسة الوطنية والدينامية والذكاء، في كل دائرة، في كل مؤسسة ومرفق عمل.. فهي الروح الجديدة التي نريدها تعود لناس البلاد، جميع ناس البلاد، وهي البركة والنعمة التي تحِلّ في الطيبين العاملين لوطنهم كله وشعبهم كله!
إن من يحمل هذه الروح، يكون قد اكتسب وحمل الهوية الوطنية الحقيقية.
هذه الهوية الوطنية ينالها من شاء وعمل وسعى لينالها، وأن ينسى الماضي ويبتدئ العمل لحاضر العراق ومستقبله.. سلاماً سلاماً ياعراق الجميع، وبعيداً بعيداً عن النخلات العجاف!