الأنوثة العارية

ثقافة 2024/03/10
...

  عبد الغفار العطوي

عري الجسد يبدو ظاهرة  قديمة  قدم الإنسان، ولا نستطيع فصلهما عن بعض، إذ من المستحيل التحدث عن الإنسان بمعزل عن جسده ولا يمكننا التحدث عن الجسد من دون التطرق للإنسان، لهذا سنطلق عليه «الجسد العريان» لأنه لا ينتمي إلا لذاته في حالة فحصه في الأداء التاريخي الذي قدمه في «تاريخ الجسد» جون روب، واوليفر ج ت هاريس، ومن العصر الحجري القديم كان يكشف الجسد عريه على وفق ما تقتضي به وظائف عوالمها المختلفة. فكانت هناك حدود للجسد لا يتخطاها، من حيث تفرض عليه مفاهيم معينة يمشي على نظمها، تؤكد على أن العري هو النموذج الاستطيقي  للجسد، ولا فرق في ذلك بين الأجساد الذكورية أو الأجساد الانثوية، بسبب أن الدافع في إبداء العري الجسدي في الأساس وظيفة الجسد كسمة مقدسة، فالجسد  بدا مقدساً، يحمل صفة «جسد الإله أو الإله الجسد» ويمتلك أوصاف اللذة، أو الرغبة، أو المتعة الخالصة أو المحضة «دون مستوى الشهوة».

لعل تلك الأوصاف هي التي أكسبت الجسد اهتماماً، لا سيما الجسد الأنثوي، لارتباطه بصورة القدرة على الحمل والولادة، فكان جسد الأنثى هو جسد الآلهة الولادة «بتشديد اللام» وظل حضوره جلياً في الديانات الوثنية كثيراً، وفي الأديان السماوية  قليلاً، على كونه يمثل رمزاً للخصب أو التكاثر، حتى إن  الجسد الأنثوي اعتمد على مفهوم الجنس في العصر القديم والوسيط، وامتدت ظاهرة الجنس الأنثوي مشروعاً دينياً مقدساً، لكنه ظل مشروطاً في حدود شرعية  تقنن من استخدام الجنس مع الجسد الأنثوي الذي حددتها الأديان السماوية كما في كتاب «شعرية الجسد لهدى بحروني».  
وفي «بنيان الفحولة لرجاء بن سلامة» وهي بحوث في المذكر والمؤنث، جاء التمييز لصالح المذكر، لتثمر المؤنث ثمار العنف، فاختص المذكر بالفحولة في بنيانه وهيمنته التاريخية، واختيرت  للمؤنث أن تكون جسداً محاطاً بالالتباسات.
ولعل إبراهيم عيسى في «علم جمال الجسد المغاير» أراد إبعاد فكرة إن علم الجمال يركز على الجسد الإنثوي فقط، فقام بدراسة استطيقية في تحولات الجسد بوصفه قابلاً للمغايرة نحو جمال القبح في الجسد الشرير، والهامشي، والحيواني، بيد إن صفة الجسد اللحمية أفشلت فعل المغايرة، وتم وضع الجسد الأنثوي في مصاف «الفتنة» الاستطيقية.
ففي كتاب فياتسلاف شستاكوف «الإيروس والثقافة - فلسفة الحب والفن الأوربي»، أوضح أن تدخل مفهوم الإيروسية كسمة استطيقية لصالح الجسد الأنثوي قد تلاعبت به  تحولات الثقافة في تطورها الفلسفي، وإمساكها برهانات الحضارة الغربية ما بعد الرومانسية، حيث تفتحت تلك الثقافة على رؤى  تنويرية أخفت الجسد عن الأنظار في حقبة الحداثة إلى نهايتها، ثم بعدها، قامت بتوظيفه في حقبة لاحقة «ما بعد الحداثة».
وتتبعت د. سامية قدري في كتابها «الجسد بين الحداثة وما بعد الحداثة» تطور مفهوم الثقافة للجسد على ضوء تلك التحولات الثقافية من حيث كان مشروع التابو الأول، فاختلفت نظرة البشرية له عبر العصور، فما حدث للجسد في منظور التغير الاجتماعي والثقافي هو الذي جعل من جسد المرأة أن تكمن أهميته في هذه النقطة، ومن جسد الرجل أيضاً، مع اختلاف بعد ذلك لجسد المرأة من تركيز، من كون الجسد وسيطاً للتعرف على السياقات الاجتماعية، وقراءة التحولات الثقافية والسياسية في أي مجتمع، بسبب أن صار للجسد لغة يمكن أن يقرأ لقارئ ينتمي لطائفته «سحر لغة الجسد ليلى شحرور»، لكن قدري أفردت خصوصية لجسد المرأة في تطرقها لظاهرة «تسليع الجسد» في عولمة جسد المرأة، والتسليع هو الذي يعني التعامل مع جسد المرأة تبعاً للمقاييس الجسدية، ومن كونها باتت سلعة، وإنها تعد آلية إعلانية للترويج لشركات متعددة الجنسية التي استغلت التحولات الثقافية لصالح قراءة مغايرة للجسد، وإزالة القداسة عنه، ودفعت به لفضاء ما بعد الحداثة باعتباره جسدا معولما، ولما أخضع الجسد الأنثوي للمقارنة بين التعري والزي، راحت النظرية الاستطيقية تفرق بين مقاصد العري ومنافع الزي.  
د. سامية قدري تذهب إلى أن الجسد كان قد وضع في بؤرة الاهتمام في رحلتي الحداثة وما بعد الحداثة، فإن دراسة العلاقة بين الجسد والهوية من ناحية، وبينهما وبين الزي من ناحية أخرى قد لاقت اهتماماً خاصا، جعل من تلك المتلازمة «الجسد -الهوية- الزي» محط أنظار تلك الشركات التي قدمتها في عصر العولمة باعتبارها سوقا عالميا استعراضيا رائجا، وعززت موقعها، وأيضاً الاستطيقا ووسائل التواصل الاجتماعي في نهاية القرن العشرين. بدوره يبين تيودور ف ادورنو بما معناه في «نظرية استطيقية» أن التحول من نظرية المعرفة إلى فلسفة نقدية في المجتمع يجب أن تعطي مفهوما استطيقيا للفن، وإن كان فهمنا لا يدرك مغزى ادورنو الاستطيقي بسهولة، إلا إن الفن هو من أوثق أعمدة الإنسان المعاصر في تلمس الفكر الاستطيقي اليوم، الذي قامت الشركات الاستهلاكية بتلويث «الجسد العريان» وتحويله لسلعة، تتركز فيها غرائز الشهوة  للجسد المدنس. ومهما قدمت تلك الشركات من استعراضات في الموضة التي تقوم بها طوابير من الفاشنستات  وعارضات الأزياء، يبقى الفكر الاستطيقي يحذر من تحويل «الجسد العريان» إلى «جسد معرى»، لكن التحولات الثقافية لم يجد من يمنعها من تحقيق ما تريد عند جميع وسائل التواصل الاجتماعي، والثورة العالمية في الاتصالات «الكون الرقمي بيتر بي سيل» التي أصبحت فيها المنتجات الإلكترونية الاستهلاكية بالغة التعقيد وغنية بالميزات، لنرى في تاريخ الانترنت الذي ابتدأ في القرن الواحد والعشرين عمله، أدى إلى ظهور الركائز الأولى في استخدام الجسد الأنثوي المعرى في «الفيس بوك والاستنغرام وتيك توك» وغيرها لهذا الغرض، بما يجعل الجسد المعرى يحل مكان الجسد العريان في التعريف بالدوافع الاستطيقية نفسها، وحصرها في منصات ثقافية مستقلة إعلانية مدفوعة الثمن، حيث الجسد المعرى يفتح شهية المشاهد على العري باعتباره سلعة  استهلاكية، تعمل على إنتاج الزي المراد عرضه، لاترجات، مايوهات، مشدات الصدر بأنواعها، اكسسوار، مساحيق، عطور، بضائع خاصة بالمرأة الأنثى «الانثى العارية» والترويج لظاهرة منصات لعري «البورنو -الأفلام الإباحية» التي يروج لها الآن في تلك الوسائل الاجتماعية.