حازم رعد
يشكل سؤال {ما الفيلسوف؟} هاجساً للمشتغلين أو المهتمين في حقل الفلسفة، فهل هو من يمتلك نسقاً فلسفياً يبدأ من بحث الوجود وتكوين رؤية كونية متكاملة عن العالم والكون، أو أنه المشتغل بالدرس والبحث الفلسفي، بغض النظر عن كونه ينتج نسقاً تاماً أو لا، أم أنه يجيب عن اسئلة الراهن {المعاصر الذي يعيش فيه الإنسان} ويحقق حلولا لمشكلات الواقع؟
كل تلك الأسئلة تتري على ذهن المهتم بالدرس الفلسفي ولكل واحد من المهتمين بهذا الحقل المعرفي اجابة ما يعتقد بها أو يجترها عن سلفه، وقبل الإجابة واعطاء رأي في هذه المسألة لابد من التعرض إلى نقطة جد مهمة
وهي أن الفلاسفة أنفسهم أو ما يطلق عليهم فلاسفة سواء في الماضي أم الحاضر لم يتفقوا على معايير محددة موضوعية تحدد من هو الفيلسوف أو من يطلق عليه هذا التوصيف، اذ الفلسفة نفسها منذ البدء غير محددة ولا تتوفر على تعريف واحد يحدها ويكون جامعا مانعاً لها. فهنا في البين فلسفات واتجاهات فلسفية تكاد تكون بعدد الفلاسفة أو متبني معمارها الرؤيوي نفسه، فكيف يتحدد من هو الفيلسوف، إذن واضح أن الاجابة عن هذا التساؤل مرتبكة منذ أول لبنة توضع في معمار الفلسفة؟
ناهيك عن أن الفلاسفة أنفسهم لم يتفقوا على أن الآخر المختلف معهم رؤية وغرضاً ومنهجا، أنه فيلسوف وكذلك العكس وكمثال على ذلك كان شوبنهاور يرى أن فلسفة هيجل مجرد حشوا من الالفاظ التي لا معنى لها واقصى من تدل عليه زخارف من الكلام. أبعد من ذلك أن سقراط وافلاطون كانوا يعدون الاتجاه السفسطائي عبارة عن آراء ووجهات نظر لا معنى لها، ولا تركن الى برهان واضح في حين أننا اليوم نعد السفسطائيين- لا أقل- بعض فلاسفة هذا الاتجاه من الافذاذ الذين حققوا اتجاها فلسفياً مهماً.
أعتقد أن الفيلسوف هو من يتصف بخصال ثلاث تشكل المعالم الرئيسية له لنيل هذا التوصيف،
الاول: أن يكون مشتغلاً بالتفكير عقلياً بقضاياً ومشكلات الواقع وبناءً على ذلك النشاط العقلاني يعد المشتغل فيلسوفاً، والامر يشبه الى حد ما اتصاف بعض الاشخاص بصفات تتبع اشتغالهم بحرف ومهن تعد الحد المعرف لها، كالنجار بالنسبة للمشتغل بهذه المهنة والسياسي،الذي يحترف هذا المجال والأكاديمي للمتخصص في التدريس داخل الأسوار الاكاديمية الرسمية وغير ذلك.
الثاني: أن يكون له دور محوري في الشأن العام فالفيلسوف تبعاً لكونه مشتغلاً بالفلسفة، لا بد وان يهتم بالنظر بمشكلات الواقع والبحث لها عن حلول، إذ يعمل الفيلسوف على بناء منظومة من الموضوعات “الحلول والاجابات” تشكل في ما بعد المنظومة الفكرية “المعرفة” والرؤية العامة عن كل الأشياء، بناء على تشخيص وتحليل وحل المشكلات الحاضرة فمشغله الأساسي -أي الفيلسوف- متعلق بالمشكلة التي تعضل الواقع وتمنيه بصعوبة فما لم يتصل بالواقع ويماس موضوعاته وصعوباته، وينتج عن ذلك حلولاً له لا يضفى عليه وصف الفيلسوف، اذن فإحدى النقاط الاساسية هي تلك، اذ الفلسفة ممارسة وليست مقتصرة على النظر العقلي او التفكير المجرد، المنزاح عن فضاء الفعل والعمل والكشف والنقد وابرام الحلول للمشكلات ومعالجة الأمراض الفكرية، التي اصيب فيها مجتمع ما، وما الفلسفة الا وجود انسان ووجود مشكلة ووجود علاقة بينهما.
الثالث: أن يقتصر اعتماده في تناول الواقع ونشاط التفكير على العقل وحدة، فهو المصدر الوحيد للمعرفة بحسب الفلسفة، فان التحول الرئيسي والمهم لكل نشاط من كونه اسطورياً او دينياً او علمياً الى فلسفي مرهون، باعتماد العقد كمصدر وحيد للمعرفة لا غير، إذ (إن الفيلسوف يريد أن يتخلص من عينيه واذنيه ليشهد الحقيقة بضوء العقل وحدة) كما يقول افلاطون، ومن هنا يفترق الفيلسوف في طريقة تفكيره وفي مناهجه ومنابع معرفته عن غيره من رجال الدين ورجال التجربة العلمية، فان لكلِّ من هؤلاء طريقته ومناهجه وأدواته الخاصة التي يقتحم من خلالها ساحة المشكلات، ومن خلالها يكشف عن الواقع وهي بطبيعة الحال تختلف عن مناهج وادوات وطرق الفلسفة التي من خلال تنطلق الى الواقع، يقول جان جاك روسو (ليس الفيلسوف نسيباً ولا مواطناً ولا إنساناً إنه فيلسوف) فهو حينما يحترف الفلسفة بموضوعية وتجرد، بحيث لا تؤثر به طرق أخرى من التفكير ولا يخضع لمسلمات ومألوف، ويتناول موضوعات الواقع بحياد علمي يتوسل البراهين للدلالة على صحة الفكرة يتصف، بكونه فيلسوفاً لا شيء اخر غير ذلك، فكل الحمولات الأخرى تجيء تباعاً بعد ذلكم التميز.
وهذا الرأي يعزز ما نجده من كون الفيلسوف هو المشتغل بالفكر العقلي الاستنتاجي البرهاني، وحيث ينعكس ذلك الفعل على نشاط الانسان في الواقع كممارسة وعمل، ولا يشترط أن يكون من ذوي الانساق الكبرى أو السرديات الشمولية، ولا يمكن أن ننجر لذوقيات أشخاص تحاول تحميل أمزجتها وميولها على الاشياء، فتقصر ما تشاء تقصيره، وتضخم ما تشاء أن تضخمه، ولكننا نخضع لمراد الحقيقة التي تجذبنا الى ناحيتها بقرينة الدليل والحجج، وكما يقول الملا صدرا الشيرازي فـ [الرجل الحكيم لا يلتفت إلى المشهور، ولا يبالي إذا أصاب الحقّ من مخالفة الجمهور، ولا يتوجّه في كلّ باب إلى من قال، بل إلى ما قيل]، وهذا الفرد إن وجد في مجتمع أو وسط جماعة يعمل في دائرتها بما افاض عليه العقل من الفهم والأفكار، ويعالج المشكلات ويتاخم مسائل الشأن العام المشتركة لتلك الجماعة أو لذلك المجتمع، كان ذلك حقاً فيلسوف يستحق هذا الوصف، وكل الافذاذ من الفلاسفة في التاريخ نالوا هذا الوصف، نظراً لما قدموا من نتاج تفكيري عقلي خالص وممارسة نشاط حل المشكلات والاهتمام بمسائل وقضايا المجتمع.