كيف نفهم الإنسان ما بعدَ السايبر؟

ثقافة 2024/03/31
...

  محمدحسين الرفاعي


(1)

ما يجب أن نتوقف عنده، في التَّساؤل عن الحياة بعامَّةٍ، هو الإنسان. والأمر، ضمن معانٍ تأسيسية مرتبطة بذاك الذي صار موضوعًا لعلم من العلوم. علم الإنسان، والعلم بالإنسان؛ أو [العلم- في- ما- هو- الإنسان؟]. إنَّ التَّساؤل مَن هو الإنسان إنَّما هو يشتمل، داخله، على التَّساؤل ما هو الإنسان. إنَّ ما يمكن أن نتوفر عليه في الوجود البشري في التاريخ، أي الصيرورة المُتصيِّرة Progressive Process التي من شأن إتيان الإنسان إلى الوجود المجتمعيّ، عَبرَ الفعل، الفعل المجتمعيّ المحدَّد قبليَّاً من خلال الفعاليَّة المجتمعيَّة Societal Activity، إنَّما هو، في تواشج بنيوي عميق، يُفهمُ من جهة العقلانية الحديثة Modernism Rationality. وهذه الأخيرة، يتمُّ اِستجلاؤُها عَبرَ المحطات الأصليَّة الخمس الآتية: 

(2)

تتضمَّنُ الصيرورة المتصيِّرة معانٍ أربعة دفعة واحدة: هي صيرورة لأنها تنطلق في دراسة الإنسان من الماضي إلى الحاضر، دياكرونيكيَّاً Diachronic، على النحو الذي عَبرَه [يكونُ- الإنسانُ- موضوعًا]، من جهة أولى. وهي متصيِّرة لأنها تفهم الإنسانَ وقد صارَ موضوعًا علميَّاً من جهة كونه يُبنى ويُخلق ويُصنع، من جهة ثانية، في كلِّ مرَّةٍ يقوم التَّساؤل المختلف الجديد عنه، من جهة ثالثة، من قِبَلِ الذَّات الباحثة، أي الذَّات المتسائِلة- المتفكِّرة- الفاهِمَة، وبالتالي الذَّات الواعية وعيًا علميَّاً بذاتِ نفسِها العميقة، من جهة رابعة. 

(3)

يرتبط الفعل المجتمعيّ بالإمكانات الذاتيَّة Subjectivism، والشروط الموضوعيَّة Objectivity التي تتوفَّر، أو يجب أن تتوفَّر من أجل [إتيان- الذَّات- إلى- الخارج]. ولكن، يفهم الإنسان، بوصفه فاعلاً مجتمعيَّاً، ذاته، ومن بَعدُ الهُويَّة الوجودية التي من شأنه، من مصادر وعي ثلاثة على أقل تقدير: إنَّه يفهم طبقاتِ تكوُّنِ هويَّتِهِ اِنطلاقًا من المجتمع، والإنوجاد في المجتمع، من جهة أولى، وهو يتساءل عن ذاته في العلاقة مع العالَميَّة التي من شأنه، العالَميَّة التي تُؤخَذُ على أنَّها وجوده نحو الخارج، والعالَم الذي يتشكَّل لديه بوصفه عالَمًا ديالكتيكيَّاً يأخذ بالتشكُّلِ والتكوُّنِ كما هو، في الوقت نفسه، مأخوذٌ بالتشتُّتِ والتصدُّع والتحطُّم، من جهة ثانية، وهو يعي ذاته، في ضروب الإتيان نحو الخارج على نحو ثقافيٍّ بواسطة، وتوسُّطِ الهُويَّة: الهُويَّة تارةً كوسيلة وأداة في اِرتسام أوَّليٍّ للطريق نحو الخارج (أي بواسطتها)، والهُويَّة تارةً من جهة كونها حقلَ وجودٍ مجتمعي قائم بذاته (أي توسُّطها)، من جهة ثالثة. 


(4)

تتواشج الفعاليَّة المجتمعيَّة مع مفهوم المؤسسة المجتمعيَّة عَبرَ شروط إمكان تَضَعهْا قبليَّاً هذه الأخيرة للذات في أن تكون؛ وتفتح إمكانات الفعل بوصفه قد تم تحديده على نحو بحيث هو، من جهة يتجسَّدُ مجتمعيَّاً، ومن جهةٍ أخرى، يكون متمكِّنًا من التَّساؤل عن ذاتِ نفسه العميقة؛ في علاقة تغذية من الجهتين للذات في أن توجد على نحو الهُويَّة المجتمعيَّة. 


(5)

تأخذ الذَّات معانٍ عِدَّةٍ في السَّبيل إلى وعيها وعيًا فلسفيَّاً حديثًا. ثَمَّةَ ماهيَّة الذَّات، وثمة بِنيَة الذَّات، وثمة صيرورة الذَّات. نتوفر على ماهيَّة الذَّات عَبرَ وجودِها في الكينونة المجتمعيَّة، أي جملة الإمكانات المتوفِّرة لأنَّ يكون الإنسان أكثر من الهُويَّة، وذلك عَبرَها أيضًا. كما يمكن الحصول على بِنيَة الذَّات من خلال المُكَوِّنات والعناصر التي تأتي من وحدة الإمكانات الذاتيَّة والشروط الموضوعيَّة. كما نظفر بفهم صيرورة الذَّات بتوسُّط المحطات الأساسيَّة التي أسهمت في بنائها. 

فما هي؟ وكيف نتعرف إليها؟ 


(6)

يعني الاِنتقال من التَّساؤل [مَن هو الإنسان؟] إلى التَّساؤل [ما هو الإنسان؟] اِنتقالاً من الهُويَّة إلى الذَّات؛ أي اِنتقالاً من تلك المحدِّدات القَبليَّة Priori للإنسان، إلى الإمكانات التي تتوفَّر لدى الإنسان من أجل قولِ وفعل ما يريد، من جهة أولى، وما يفكر به، من جهة ثانية، وما يسوِّغه لنفسه، من جهة ثالثة، وما يفهمه من الخارج، من جهة رابعة. وهكذا، يُصبح مفهوم الهُويَّة، من دون الأخذ بالـ[ميتا- هُويَّة]، مفهومًا ناقصًا في تفاعله مع المُكَوِّنات الخارجية والداخلية التي من شأنه. لماذا؟ لأنه يختزل الإنسان في ما هو قَبليٌّ إزاء الإنسان؛ وليس يكترث بالبَعْدِيِّ الذي يصنعه الإنسان بذاتِ نفسه. وهو، بعبارة صارمة: يتجاوز [الإنسان- في- المنتصف]؛ أي بين القَبْليِّ والبَعْديِّ، على نحو صريح غير آبه بالإنسان مأخوذًا من جهة الفعل.