{الرحلة 404}.. قيِّدته الرقابة وأنصفه الجمهور

ثقافة 2024/04/01
...

علي حمود الحسن

قليلة هي الأفلام المميزة في السينما المصرية الراهنة، اذ فقدت هذه السينما الملهمة والعريقة الكثير من سماتها وجودة أفلامها، التي تراجعت بشكل دراماتيكي منذ سنين، هذا التعميم تكسره اضاءات لمخرجين موهوبين قدموا أعمالا يعول عليها، منهم هاني خليفة المخرج المقل صاحب " سهر الليالي"(2001)، الذي عاد بعد غياب طويل بفيلم " الرحلة 404" (2024) وهو اسم على مسمى، فالرقم (404) هو ما تظهره الشاشة الرقمية من فشل محاولة الحصول على إجابة عن تنفيذ امر، فما عليك سوى إعادة المحاولة، أو ترك الموضوع أصلا، وهذا يحيلنا الى المشكلات، الذي تعرض لها الفيلم الى حد رفض عرضه ومشاركته في مهرجان البحر الأحمر 2022، ما اضطر مؤلفه الى حذف شخصية مثيرة للجدل وتغير عنوانه من "القاهرة مكة" إلى " الرحلة 404".
الفيلم الذي أنتجه محمد حفظي، على الرغم من رفض معظم المنتجين المصريين له، يحكي مكابدات غادة (منى زكي) السيدة الثلاثينية ذات الماضي المشين، تقرر التوبة والذهاب الى الحج برفقة أبيها (سامي العدل)، وقبل سفرها بأسبوع تتعرض لمشكلات وأزمات، لكنها تصمد وتحصل على ما تريد، كأن ما مر بها رحلة تطهيرية نكتشف من خلالها عن ماضيها الأسود .. وهي قصة عادية استهلكتها السينما المصرية، لكن معالجة المخرج هاني خليفة، وعبقرية كاتب السيناريو محمد رجاء ثَوّرت المبنى والمعنى السردي للفيلم،  فهما وظفا أداء منى زكي غير مسبوق  لتكون البطلة المطلقة تظهر في كل مشهد الفيلم، اذ تحولت الشخصية الإشكالية لغادة التي تنوء بذنب عظيم ومحاولتها التوبة، فهي ترفض الأم التي تريدها بقرة حلوب، وان كان على حساب شرفها، والأب المتبرم والمتحلل والمطلق من زوجته الشرسة والجشعة، فتحولت غادة الى كرة ثلج؛ كل شخصية تلتقيها، تُلقي ضوءا على جزء من حياتها، حتى تكمل الصورة للمشاهد بتشويق وتتابع اقرب الى الأسلوب البوليسي، ما جعل الفيلم على قدر من النضج والابتكار.
 ثمة حيلة سردية تخلص فيها المخرج من كل التقنيات السردية التقليدية، فغادة بعد أن تتعرض أمها الى حادث سير وتدخل مستشفى أهليا بين الحياة والموت، وبتكلفة عالية جدا، تضطر الى الاتصال بزبائنها القدامى واصدقائها، فتقصد  شهيرة (شيرين رضا) التي تدير بيت بغاء، تحاول استغلالها، لكنها ترفض وتلتجئ الى زميلها القديم طارق، الذي غرر بها وتزوج زميلتها المحترمة، لنكتشف تاريخ سقوطها الأخلاقي الأول، ثم تلتقي شريكها في العمل هشام (محمد علاء) طالب الطب، الذي لم يكمل تعليمه وتحول الى رجل أعمال وطبال، وتتعرض الى نصب من قبله، فتضيء لنا ومضات من عملها في الملاهي والصالونات، وكذلك لقاؤها بزبون قديم يمر بمحنة حقيقية، اذ انقلبت عليه زوجته وسرقت أمواله وتزوجت من شريكه، فيلتجئ الى الإدمان لم يستطع، وبين اغراءات شهيرة وضغط سداد تكاليف العملية واقتراب موعد الحج .. تنهار عزيمتها فتقرر الذهاب الى شهيرة ومقابلة الرجل المغرم بها، مقابل الحصول على "الشيك "، تتفاجأ بزوجها القديم مدمن المخدرات، الذي يعاني من عقد أوديبية، فيتسبب بقتل امه التي كانت تمارس الدعارة، وكانت غادة قد زارته في قصره المنيف وطردها شر طردة، بعد أن ساومها، لأن تقضي ليلة معه مقابل الفلوس، فترفض بشدة وتخرج غاضبة.
كل شخصية تضيء جزءًا من تاريخ غادة، حتى تكتمل صورتها، الكل يعاملها وفقا لماضيها، لا أحد يستوعب جدية توبتها، بل إن زوجها القديم يراهن شيرين على مجيئها راكعة، وبذا اخذنا الفيلم في عالم غادة وصراعها بين ما كانت عليه، وما تريده لحياتها الجديدة والنظيفة، تشتبك الاحداث وتحتدم، لكن المخرج أخفق في وضع نهاية متسقة مع مآل الشخصيات تطورا وصراعا، فجاءت حلا دراماتيكيا غير مقنع البتة، فزوجها الأول يمنحها الشيك بلا شروط، وطارق صديقها الذي أدمى  قلبها وأذلَّها يدفع تكاليف العملية، تجد نفسها حرة طليقة تعمرها سكينة التوبة، تنظر وراءها بغضب وتتوجه الى
مكة للحج.