ترتبط هوية الدولة بمعيار الدولة الذي تُؤسس عليه وتُدار به، فهوية الدولة القومية تستند إلى المعيار القومي في التأسيس والتعبير والسياسة والمصلحة، والحال ذاته يصدق على الدولة الدينية. وعليه لا يجوز الحديث عن هوية الدولة قبل حسم المعيار الذي تؤسس عليه.
استقرت الدولة الناجحة على وفق معايير الدولة الوطنية، متجاوزة بذلك نماذج معايير الدولة القومية أو الطائفية، والسبب الأساس يعود إلى (التّنوع) المجتمعي داخل الدولة وقدرتها على التعامل معه على مستوى الإعتراف والتأسيس وإلإدارة. فأغلب تجارب صراع المجتمعيات/الهويات داخل الدولة الواحدة جاء بسبب التّنوع وطريقة إدارته. وقد برزت هذه المشكلة مع قيام الدولة الحديثة، إذ وجدت المجتمعيات/الهويات نفسها ضمن دول ذات كيانات سيادية محددة، وعليها إما إيجاد معادلة: الهوية المحايدة/التعايش المشترك/المصالح العامة، لضمان النجاح، وإما الصراع والاحتراب لحل اشكالية تصدّر الهوية وحاكميتها داخل أسوار الدولة السيادية الواحدة. إنَّ التّنوع الهوياتي هو جذر تطوّر جدلية هوية الدولة من هويات قومية دينية طائفية إلى هوية وطنية.
التنوع المجتمعي/الهوياتي حقيقة داخل كل الدولة، فالدولة صافية القومية والديانة والطائفة أكذوبة آيديولوجية تتبناها المدارس الشمولية والأنظمة المنحازة. وبما انَّ التنوع المجتمعي الهوياتي حقيقة فاعتماد أي هوية مجتمعية فرعية (وإن كانت أغلبية) سيكون على حساب الهويات المجتمعية الأخرى، وتبنيها كهوية للدولة سيخلق صِدام هويات داخل الأمّة الوطنية،.. فعندما تقول –مثلاً- انَّ الدولة عربية فهذا يعني أنَّ هوية الدولة وتعابيرها السياسية القانونية المصالحية هي عربية، وهنا فأمام الهويات الوطنية غير العربية إما الاستعراب لتصدق عليها هوية الدولة وإما الانفصال عن الدولة وإما أن تعيش الإقصاء، وهذا حال الهويات الدينية الطائفية الإثنية فيما لو اُتخذت أساساً لهوية الدولة. وعليه لا يجوز أنَّ تحتكر الدولة أي هوية قومية أو دينية أو إثنية، ويبقى للهويات المجتمعية حيز الوجود والتعبير والخصوصية داخل الفضاء المجتمعي لا الفضاء الوطني السيادي.
الهوية الوطنية هي الروح والشخصية الكلية لأمّة وقيم ونظام وإقليم الدولة، فهي ناتج التماهي المشترك بين مقوماتها ومجتمعياتها. الهوية هي المشترك المعبّر عن الدولة وأمّتها الوطنية‘ الذي تخلقه سيرورة الدولة بقيمها وأنظمتها وسياساتها عبر زمن الدولة.
الهوية هي (النحن) الوطنية، والنحن هنا هو المُشترَك بين مجتمعيات ونظام الدولة، فالهوية هي التعبير المشترك عن (نحن) الدولة وأمّتها. المشترَك هو الخالق للدولة والهوية، والمشترك يوجب عدم تبني هوية على حساب أخرى، بل بحياد الدولة الإيجابي يُخلق المشترك، فعلى أساس من المواطنة التامّة والديمقراطية التشاركية تخلق الدولة المشترك القانوني السياسي المصالحي لجميع رعاياها دونما تمييز أو تفضيل، فتكون بذلك الفضاء المشترك المعبر عنهم والمحقق لمصالحهم. الفضاء الوطني المشترك هو الخالق للهوية الوطنية المشتركة، والهوية الوطنية المشتركة هي نتاج أمّة مواطنين وليس أمّة هويات.
الدولة العراقية خرجت من مأزق الهوية القومية التي أدلجت وسيّست الانتماء القومي فصدّعت هوية الدولة الوطنية وأمّتها، لكنها خرجت إلى نفق اللا هوية بسبب النظام المكوّناتي العرقطائفي الذي صدَّع المشترك الوطني فغيّب الهوية، ولن تنتج هوية وطنية دونما احتكام حاسم للمعايير الوطنية المشتركة على مستوى الانتماء والولاء والمصلحة.