الاتحاد الأوروبي.. التاريخ والأزمات

قضايا عربية ودولية 2024/05/14
...


علي حسن الفواز



تعاني أوروبا من فوبيا التاريخ، ومن محنة السياسة وتحولاتها الصادمة، فبقدر ما تبدو هذه الفوبيا ثقيلة جرّاء ذاكرة الإرث اليوناني واللاتيني، فإن يقظة معاهدة "وتسفاليا" أسهمت في جعل هذا الإرث أمام تشظيات الأمة - الدولة، حيث ارتبطت نهاية الحروب الدينية المسيحية بنهاية الامبراطورية، وتحوّل المجتمع السياسي الأوروبي إلى مجتمع له تقاليده وهويته ونظامه وصراعاته. 

اليوم تبدو المعاناة أكثر تعقيداً، لا سيما بعد تأسيس منظومة الاتحاد الأوروبي عام 1992، وهي سنة مفصلية، ليست بعيدة عن نهاية الحرب الباردة، وانهيار الاتحاد السوفيتي السابق، وبما يجعل انخراطها في الاتحاد السياسي نظيراً للانخراط في الاتحاد العسكري الذي يمثله "حلف الناتو" وما بين الحلفين اتسعت المساحات، وتغيّر الأدلجات، حتى بات نصف دول "حلف وراشو" الاشتراكي داخل خانة الأطلسيين في سياستهم، وفي عسكرتهم، لكن ما يجري اليوم بعد حرب أوكرانيا، وتعقيداتها يكشف عن وجود تقاطع في سياسات الحلف، وفي قدرته على الدخول في حربٍ لها حساباتها الشمولية الضاغطة، إذ بات ذلك التقاطع مثيراً للجدل حول جدوى الصراع مع روسيا، وحول تراكم الخسائر المادية والمعنوية، ومستقبل النظام الاقتصادي مع زيادة نسب التضخم، والبطالة، والهجرة، وهي قضايا تهدد السياسة أولاً، وتُضعف القرار العسكري أيضاً، لا سيما أن دولة بجحم "تركيا" التي تعد الدولة الثانية في حلف الناتو، لها مواقف مغايرة لما يجري على الجبهات، وفي أروقة السياسات السرية. الحديث عن توحيد سياسات الاتحاد الأوروبي يصطدم بالواقع، وباختلاف وجهات النظر حول قضايا ستراتيجية، تخصّ الأمن الأوروبي، والعلاقة المستقبلية مع روسيا، ومدى تأثير هذه العلاقة في توصيف "الصراع الجيوسياسي" وفي اقتصاديات الدول، وتأثرها بأزمات الطاقة والتجارة مع الصين، وتداعيات المناخ والتلوث البيئي، واحتمال حدوث "حرب" ذات مزاج نووي، فضلاً عن العلاقة مع الدول في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية، وهي علاقة تكشف عن "رهاب" خفي، دفع كثيراً من تلك الدول إلى الدخول في تحالفات إقليمية، غايتها الحماية، وعدم تعرّضها الفشل السياسي والاقتصادي، وحتى الأمني. الظهور الأميركي السريع في الخمسينات، جعل أووربا أكثر حذراً في التقدم، ليس لأنها ضحية الحرب العالمية الثانية، بل لأن ثقل المشروع الأميركي "مارشال" جعلها تعاني من عقدة غياب التاريخ، ومن أزمة الحاجة إلى الترميم والتأهيل والدفع والتمويل، وهو أعطى لـ"مارشال" مساحة للبدء بالرهان على نجاح الولايات المتحدة في السيطرة على أوروبا، عبر وجود "العطايا والقيود" وتأثيراتها في الدخول إلى سياق اللعبة الدولية الجديدة، في صياغة عقد التحالف العسكري الذي تقوده الولايات المتحدة، وفي تأطير المواقف البرغماتية  إزاء الحرب المُحتملة، والدفع باتجاه إجراءات تجعل من أوروبا متورطة ومُستنزّفة فيها، بعيداً عن استعراضات هذا الرئيس أو غيرها في تحويل تلك الحرب إلى خيار أيديولوجي من الصعب السيطرة على شروطه.