ثامر عباس
لا ريب في أن علاقة الإنسان العراقي بالإعلام الرسمي علاقة طالما اتسمت - على مدار عقود – بالحذر والشك والجفاء، ليس لأن خطابه كان مرتهنا بالكامل لإيديولوجيات الأنظمة الاستبدادية والشمولية التي حكمت العراق فحسب، وإنما لتورط رموزه بممارسات إقصاء ومحاربة الأقلام الحرة كونها تخشى نزوعها النقدي وتوجهها الديمقراطي، الأمر الذي أحال مؤسسات ذلك الإعلام إلى منابر لترويج الأوهام الاجتماعية وتسويق الأكاذيب السياسية.
وحين سقط النظام السياسي السابق في التاسع من نيسان عام 2003، وباتت الساحتان الإعلامية والثقافية مشاعتين لمختلف تلاوين التيارات السياسية والإيديولوجية، شهد العراق موجة كاسحة من (الجرائد) الطائفية والقبلية والعنصرية بلغت أعدادها المئات تحت عنوان ومسميات ما أنزل الله بها من سلطان.
وضمن ذلك السيل الجارف من الطفولة السياسية والعدمية الفكرية والزعرنة الإعلامية، كانت (جريدة الصباح) تؤسس – ببطء ولكن بثبات - لمسار إعلامي نوعي مختلف، ينأى بنفسه عن ذلك الصخب والضجيج الذي انحدر بمهنة الصحافة إلى مهاوي التسطيح والانحطاط.
وبمناسبة حلول ذكرى تأسيس (جريدة الصباح) الرسمية، فان من الضرورة بمكان استعراض مآلات ذلك المسار المتعرج بين المدّ (العصبي) الراديكالي والجزر (الوطني) الديمقراطي، الذي استطاعت من خلاله ليس فقط تغيير الانطباعات السلبية التي كان جمهور العامة قد كوّنها حيال كل مطبوع إعلامي يحمل طابع حكومي – رسمي فحسب، بل وكذلك أن تصنع لنفسها مكانة رفيعة وتحقق لها سمعة طيبة بين جميع الصحف المحلية الأخرى.
ولعل ما ساعد على بلوغها هذا الشأو من التميّز الصحفي والتطور الإعلامي، تمتع رئاسة تحريرها بعناصر امتازت بصدق وطنيتها وعمق ثقافتها، الأمر الذي أفضى إلى استقطاب نخبة من الكتاب والمثقفين المهجوسين بشؤون الوطن وهموم المواطن.
وهنا لا بد من الإشارة إلى أن الانعطافة النوعية التي حققتها جريدة (الصباح) على صعيد الريادة في مجال الصحافة اليومية المقروءة، تأسست على ركنين أساسيين يشدّ أحدهما أزر الثاني؛ الأول وهو رهانها المطلق على تبني المنهج (النقدي) في طرح القضايا الإشكالية المرتبطة بسرديات التاريخ الملتبس، ومرجعيات الدين المؤسطر، وخلفيات الثقافة المطلسمة، ومخلفات الهوية المؤمثلة.
بحيث تتاح للقارئ – المواطن البسيط القدرة الفكرية والمعرفية على سبر أغوار تلك (المواريث) المغلفة بالأكاذيب والمزوقة بالتلفيقات، وحثه على الكشف عن طبيعة السيرورات السوسيولوجية والديناميات السيكولوجية التي أفضت – ولا تزال – لوقوع هذا الكم الهائل من المهازل السياسية والزلازل الاجتماعية والنوازل الاقتصادية.
دون الوقوع في شباك التضليل والتهويل الإعلامي التي تجيد تسويقها الصحافة المؤدلجة بكل أنواعها وأصنافها.
وأما ما يتعلق بميزة الركن الثاني، فهي انتهاجها (الجريدة) المسار (الديمقراطي) في تناول المشاكل الناجمة عن علاقات (الدولة – السلطة) ب(الفرد – المجتمع)، لجهة خلق البيئات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية المناسبة التي من شأنها ضبط الموازنة بين الحقوق والواجبات، وتحقيق العدالة الاجتماعية، وضمان حقوق الإنسان.
بحيث ساهم – ويساهم - هذا المسار في الحيلولة دون تراكم السلبيات والتغطية على الإخفاقات، لاسيما وان تجارب الصحافة في العراق عانت طيلة تاريخها، في ظل أنظمة القمع السياسي والردع النفسي، شتى ضروب التزوير للوقائع والتزييف للأحداث. وعلى هذا الصعيد، فقد شرعت جريدة (الصباح) أبواب صفحاتها أمام مختلف الآراء والأفكار التي كانت حبيسة الخوف من البطش والملاحقة، دون أن تضع سقفا محددا يمنع تداول تلك الأفكار وتفاعل تلك الآراء، باستثناء اشتراط معايير الحمية (الوطنية) والنزعة (الإنسانية) والهوية (العراقية). فمبارك لصحيفة (الصباح) رائدة المنهج (النقدي) والمسار (الديمقراطي) في عيد تأسيسها الميمون، وتحية تقدير واعتزاز لرئاسة تحريرها مع كادرها الإداري وطاقمها الفني بهذه المناسبة السعيدة، متمنين أن تحافظ (الصباح) على مركزها الطليعي في مجال الإعلام الوطني والصحافة الحرة.